فارق شاسع بين ردود الفعل على محاولة اغتيال الكاتب البريطاني السير سلمان رشدي في نيويورك قبل أيام وعلى المظاهرات والاحتجاجات العنيفة التي اشتعلت عقب صدو روايته "آيات شيطانية" عام 1988. فلا يمكن لأي شخص إلا أن يدين بلا تحفظ محاولة قتل أديب وكاتب، حتى لو كانت رواياته لا تعجبك أو ترى أن بها شططا. فالأدب والفن إبداع إنساني قد يروق للبعض وقد يستفز آخرين.

أما المظاهرات والاحتجاجات العنيفة التي خرجت في أنحاء مختلفة من العالم ومنع عدد كبير من الدول، الإسلامية وغير الإسلامية، الكتاب قبل أكثر من ثلاثة عقود فقد كان مفهوما في ظل ما رآه المسلمون تجديفا بحق نبيهم وافتئاتا عليه. حتى السياسيين في الغرب وقتها كانت تصريحاتهم متحفظة وتكاد "تتفهم" غضب المسلمين.

هذه المرة، ورغم أن الحكومة الإيرانية تخلت منذ عام 1998 عن الدعم الرسمي لفتوى المرشد الايراني الراحل الخميني بقتل سلمان رشدي إلا أن كون الجاني لبنانيا شيعيا ولد بأميركا جعلت السياسة مرة أخرى في قلب الحدث: جريمة محاولة قتل الكاتب.

في المرة الأولى، بدأت المظاهرات من الهند، مسقط رأس رشدي، ثم باكستان قبل أن تنتشر في أنحاء أخرى من العالم. حتى في بريطانيا وقتها، كان أغلب المحتجين والمهددين للكاتب ودار النشر التي نشرت الكتاب من البريطانيين من أصل هندي أو باكستاني.

تلك مشكلة تسييس الأدب والفن، التي لا تفيد أيا منهما في النهاية. ورغم التغطية الإعلامية الواسعة لجريمة محاولة قتل الكاتب البريطاني، إلا أن الاعتداء على الأدباء والفنانين بسبب ابداعهم قديم منذ الأزل. وحتى من قبل عصور الظلام الأوروبية المعروفة بوصف "العصور الوسطى". ونصيب العرب منها ليس بالقليل، على سبيل المثال رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي الذي اغتيل في لندن والكاتب المصري الحائز على جائزة نوبل في الأدب نجيب محفوظ، الذي تعرض للطعن في القاهرة بسبب روايته "أولاد حارتنا".

أتذكر أنه مع منع الكتاب وقتها، اشتريته من نيويوك في أوائل التسعينيات من القرن الماضي ودفعت فيه مبلغا كان كبيرا بالنسبة لي وقتها، لكني لم أكمل قراءته. ليس لما يقال عنه من أنه "تجديف"، ولكن لأني لم أستسغه. وهذا طبيعي لأي قارئ، قد يستسيغ كتابا فأول ما يفتحه لا يتركه حتى ينهي قراءته وربما يعود إليه أكثر من مرة. بينما كتاب آخر قد لا تقبله الذائقة الفردية للقارئ بغض النظر عن قيمته لدى النقاد ومتخصصي الأدب والفن.

أدركت بعد ذلك بسنوات، ومع تعلمي أكثر وتطور معرفتي، أني لم أستسغ الكتاب لطبيعته ما بعد الحداثية في تصوير أزمة مثقف مشتت الانتماء ما بين الهند بلاده الأصلية وبريطانيا بلده الحالي. كان ذلك موقفا انطباعيا بسيطا من "ما بعد الحداثة" لم أدركه في حينه. لكن رواية سلمان رشدي "أطفال منتصف الليل"، التي سبقت آيات شيطانية بنحو ثماني سنوات وفازت بجائزة البوكر عام 1981 كانت أكثر إمتاعا.

أضرب ذلك المثال الخاص للدلالة على أن الموقف من الأدب والفن هو "انطباع شخصي" في النهاية، أما سحب الأمر للسياسة وكأن وراء إبداع الكاتب أو الفنان "مؤامرة كونية كبرى" فهو خطر لا يقل عن خطر الإرهاب والتطرف. أقصد التطرف بكل أشكاله دينيا كان أو يمينيا أو يساريا أو غيره.
لذا، حين أثارت رواية آيات شيطانية عاصفة من الاحتجاجات وأدت إلى اغتيالات ومحاولات اغتيال (المترجم الياباني للرواية قتل مطلع التسعينيات، وتعرض المترجمان الإيطالي والنرويجي لمحاولات اغتيال) أعرب الكاتب عن أسفه إن كان كتابه سبب أذى لمشاعر المسلمين. لم يكن ذلك كافيا مع فتوى الخميني ومغالاة بعض السياسيين مزايدة على تيار ديني صاعد في بلادهم وأيضا تردد كثير من الأدباء والفنانين في دعم الكاتب. واستمر الرجل يعيش متخفيا في ظل حماية أمنية من الحكومة البريطانية إلى أن انتقل إلى أميركا التي حصل على جنسيتها عام 2016.

مع أن تسييس الحادث الأخير بتحميل إيران المسؤولية، ولو بشكل غير مباشر، يبقي السياسة عاملا أساسيا في شهرة الكاتب البريطاني إلا أن الأمر هذه المرة مختلف. فقد نشر سلمان رشدي عدة كتب قبل وبعد آيات شيطانية. ولا شك أنه طور من أسلوبه وابداعه الأدبي. لكن شهرته ظلت بسبب عوامل غير أدبية بسبب تلك الرواية وما صاحبها من جدل لم ينته.

أكثر ما يثير السخرية هو دعوات مثل تلك التي أطلقها الفرنسي برنارد هنري ليفي مطالبا بمنح سلمان رشدي جائزة نوبل في الأدب بعد تعرضه للطعن ومحاولة الاغتيال. وذلك تسييس من نوع آخر، لكنه في غاية السخف. فربما كانت أعمال سلمان رشدي كفيلة بحصوله على نوبل لإبداعه وليس بسبب جريمة تعرض لها.

لعلنا نتذكر مقولة للشاعر الفلسطيني الكبير الراحل محمود درويش: "ارحمونا من هذا الحب القاتل". أطلقها درويش حين قدم إلى مصر لفترة قبل أكثر من نصف قرن، وكانت تعبيرا عن استياء من احتفاء المصريين به لأنه فلسطيني وبسبب قضية بلاده مع الاحتلال وليس احتفاء بإبداعه الشعري الذي يستحق أكثر من الاحتفاء وربما أكثر من نوبل.