لا يحتاج المرء إلى كثيرِ بيانٍ حين يقول إنّ النّظام الدّوليّ القائم، منذ انتهاء الحرب العالميّة الثّانيّة، يحتاج إلى إصلاحٍ، بل إلى إصلاح جذريّ وشامل في ضوء ما انتهى إليه، اليوم، من عجْزٍ فادح عن احتواء الأزمات والاضطرابات الهائلة التي تتصدّع بها أحوال البشريّة.
والإصلاح هذا لم يعُد يَقْبل الإرجاء أو التّرحيل إلى زمنٍ قادم؛ لأنّ الإحجام عنه والتّلكّؤَ فيه آخِذٌ العالمَ، لا محالةَ، إلى مصيرٍ مجهولٍ لا يُعْلَمِ عنه سوى أنّه أسوأُ وأَبْأَسُ حالاً ممّا هو العالم فيه اليوم.
تَواتَر التّعبير عن حاجة هذا النّظام الدّوليّ إلى الإصلاح، في مناسبات شتّى من الزّمن الماضي، لكنّ إرادةَ الإصلاح ما توفّرت - أحياناً حتّى لدى أولئك الذين نادَوا به - ولا وقَع في شأنه إجْماع، ولا شُرِع في وضْع تصوّرات حقيقيّة له.
أسبابُ الإحجام كثيرةٌ لا حصْر لها، لكنّ آكَدَها أثراً عدمَ حماسةِ دولٍ كبرى، في ذلك النّظام، لإجراءات تعديلاتٍ على بناه قد يتولّد منها مساسٌ بمكانتها أو دورها فيه، أو يُسفر عن دخول أخرى ميدان مزاحمتها على الدّور والنّفوذ. ولقد كان هذا وحده يكفي كي يئد فكرةَ الإصلاح في المهد.
قيل فيما سبق؛ قبل عقود ثلاثة من اليوم، إنّ فكرة إصلاح النّظام ممتنعةٌ في سياق استقطاب دوليّ بين عظمييْن ومعسكريْن متقابليْن ومنخرطيْن في حربٍ باردة. وقيل إنّ التّجافيّ الإيديولوجيّ بين إيديولوجيَّتين على طرفيْ نقيضٍ في رؤية كلٍّ منهما إلى النّظام ومبادئه وقوانينه ومؤسّساته لا يسمح، أَلْبَتَّةَ، بالتّوافق على مشتَركات، أو اجتراح رؤيةٍ جامعة إلى ما ينبغي أن يصير عليه النّظام، حتّى أنّ استمرار الوضع القائم statu quo في النّظام عُزِيَ إلى ذلك الخلاف الإيديولوجيّ العَصِيّ على أيّ تسوية تُفْرِج عن ممكنات جديدة.
انتهت الحرب الباردة، في مطالع تسعينيّات القرن الماضي، غِبّ انهيار الاتّحاد السّوڤييتيّ وانفراط معسكره «الاشتراكيّ» الأوروبيّ- الشّرقيّ، وانتهى الاصطفاف الدّوليّ على حدود الإيديولوجيّات.
ولكنّ إصلاحاً للنّظام الدّوليّ ما أَبْصَر النّور، ولا بَدَا أنّ عوائقه الإيديولوجيّة الكابحة ارتفعت. وما كان إعلان جورج بوش الأب، الرّئيس الأمريكيّ، قيامَ «نظامٍ عالميّ جديد» يكفي كي يقوم ذلك النّظام، بل استمرّ القديم على منواله، حتّى أنّه زاد سوءاً عمّا كانَه قبْلاً. أَلَمْ يشهد على أقسى الحروب وأَهْوَلِها بعد الحرب العالميّة الثّانيّة مثلاً؟ أَلَم يَعْصف به من الأزمات - بعد الحرب الباردة- ما لَمْ يَعصف به مثلُها إبّانها في سنوات الخمسينيّات-الثّمانينيّات؟
إنّ العطب الأكبر في النّظام الدّوليّ، منذ مطلع هذا القرن الجديد، ليس فقط في أنّ هياكله ومؤسّساته بقيت على حالها من غير تغييرٍ يطابق ذلك الذي حصل بزوال الاستقطاب الإيديولوجيّ العالميّ وانصرام حقبة الحرب الباردة، بل يَكْمَن العطب في عدم التّناسُب بين تلك الهياكل والمؤسّسات والحقائق الجديدة التي نشأت في العشرين عاماً الأخيرة على الصّعيد الكونيّ: نشوء مراكز وأقطاب في ميادين الاقتصاد والعلم والتّكنولوجيا والقدرة الاستراتيجيّة تبدّلت بها توازنات القوى التّقليديّة الموروثة عن حقبة انتهاء الحرب العالميّة الثّانيّة: أي تلك التي وُلِدَ نظامُ الأمم المتّحدة تعبيراً عن توازناتها. وما أغنانا عن القول إنّ من السّوء الذي يعتور أيَّ نظامٍ هو أن لا تكون بناهُ ومؤسّساتُه وقوانينُه مطابقةً للحقائق التّحتيّة التي تولّدت منه!
الأسوأ من هذا كلِّه أنّ الحرب الباردة التي تصرَّمت، قبل عقودٍ ثلاثة، تُعاود الإطلال برأسها، وتَلُوح علائمُها في الأفق من جديد! ماذا نسمّي الحرب الاقتصاديّة والتّكنولوجيّة بين الولايات المتّحدة الأمريكيّة والصّين، منذ بداية العقد الثّاني من هذا القرن، ونتائجَها السّلبيّة على اقتصادات العالم كلِّه غير أنّها مظهرٌ لتلك الحرب الباردة المتجدّدة؟ وماذا نسمّي تدهور العلاقة بين الولايات المتّحدة ودول أوروبا، من جهة، وروسيا الاتّحاديّة من جهة أخرى، وانزلاق أطراف العلاقة إلى سياسات العقوبات الغربيّة والتّصعيد العسكريّ في الجوار الإقليميّ لروسيا، غير أنّها من نُذُر تلك الحرب الباردة العائدة؟ بل ماذا نسمّي موضوع لَقَاحات كوڤيد 19، والطّعنَ «العلميّ» المتبادَل فيها، غيرَ إنفاذ أحكام الحرب الاقتصاديّة، وغيرَ التّعبير عن عقليّة الحرب الباردة؟
إنّ النّظام الدّولي الذي أنتج حرباً باردة، قبل سبعين عاماً، هو عينُه النّظام الذي يُنذر البشريّةَ بإعادة إنتاجها. ولقد ثبتَ أنّ أسبابَها لم تكن إيديولوجيّة، بل سياسيّة- مصلحيّة في المقام الأوّل، بدليل أنّ مَن كانوا فرسانَها أمس هُمْ أنفسُهم اليوم بعد أنِ ارتفعت أسباب الانشقاق الإيديولوجيّ بينهم.
ولأنّها سياسيّة، يُحْتَاج إلى قواعدَ جديدة لتنظيم العلاقات بين الأمم والدّول يكون مبناها على الحوار لا على الصّراع؛ على التّفاهُم لا على التّخاصُم؛ على التّوافق لا على التّنابُذ؛ ثمّ على الشّراكة لا على التّفرُّد. ولا يمكن لمثل هذه القواعد أن تتحصَّل مفعوليَّتها في العلاقات الدّوليّة إلاّ متى صارت مؤسَّسيّة ومرجعيّة حاكمة. وهذا لا يعني، في النّتيجة، سوى الحاجة إلى إعادة بناء نظام الأمم المتّحدة على النّحو الذي يضمن، فعلاً، الأمن والاستقرار والتّعاون والشّراكة في المصالح.