أثناء قراءتك هذا المقال.. فأنت استخدمت واحدا من أهم اختراعات القرن العشرين..
إنها الرقائق الإلكترونية التي أصبحت ركيزة أساسية في جميع الأجهزة التي نستخدمها.
الرقائق الإلكترونية قد تكون المعالج في حاسبك الآلي أو في هاتفك الذكي، وقد تكون في مراكز البيانات التي تعد البنية التحتية للإنترنت حول العالم أو في سيارتك أو في الطائرة التي تسافر بها..
الرقائق في كل الأجهزة الإلكترونية تقريبا.. نستخدمها في كل لحظة حتى لو لم نكن نعلم بذلك.
1971.. نقطة التحول الكبرى
يعتبر عام 1971 فارقا في تاريخ الحواسيب، وهو العام الذي كشفت فيه شركة إنتل عن أول معالج للأغراض التجارية تحت اسم Intel 4004.
هذا المعالج كان بحجم ظفر الإصبع وينتج نفس قوة الحوسبة لأول كمبيوتر إلكتروني تم بناؤه عام 1946 والذي كان يأخذ حيز غرفة بأكملها.
وضم هذا المعالج 2300 ترانزستور فقط، مهمة هذه الترانزستورات أنها تعمل كمفاتيح كهربائية داخل المعالج.
وللتبسيط، فإن لغة الكمبيوتر لا تفهم سوى رقمين فقط إما (1) أو (0)، وبالتالي عند تصميم المعالجات فإن الترانزستور يقوم بعملية واحدة فقط، إما أن يمرر الكهرباء عندما يجد الأمر (1) أو لا يمررها عندما يجد الأمر (0).
تخيل معي أن الـ 2300 ترانزستور، تغلق وتفتح على حسب الأمر الذي صدر إليها، وهنا تحدث عملية معالجة البيانات.
لنفترض أن الكمبيوتر يريد معالجة ناتج 2+2=4، في هذه الحالة فإنه لا يقرأ سوى 0010+0010=100.
هذا تبسيط مخل وأعلم أن الأمر معقد.. لكن ليس هذا موضوعنا على أي حال.
من 2300 إلى 13 مليار ترانزستور
في العقود الماضية، شهدت صناعة المعالجات تطورات غير مسبوقة، فالهدف هو تصغير المعالج وضم أكبر عدد من الترانزستورات فيه حتى يستطيع معالجة أكبر قدر من البيانات، وهذا يعني سرعة أكبر.
كما أنه كلما زاد عدد الترانزستورات ساعد ذلك في تقليل استهلاك الطاقة -وبالتالي إطالة عمر البطارية للجهاز مثلا- وتقليل الحرارة المنبعثة منها -المعالجات- مما يعني خفض الطاقة اللازمة لتبريد الجهاز.
ولولا هذا التطور وتصغير المعالجات، لما كنا مثلا نستطيع اليوم أن نستخدم أجهزة صغيرة الحجم وبقوة حوسبة فائقة، كالهواتف الذكية على سبيل المثال التي حلت محل العديد من الأجهزة التي كنا نستخدمها يوما ما.
تخيل معي معالج إنتل الذي كشفت عنه في 1971 كان يحتوي على 2300 ترانزستور فقط.. أما اليوم فمعالج آيفون 13 يحتوي على 15 مليار ترانزستور.
عملية تصنيع معقدة.. وأصعب من علم الصواريخ
كما رأيت.. 15 مليار ترانزستور في مساحة بحدود سنتيمتر مربع فقط..
فنحن هنا نتحدث عن تصغير المسافة بين كل ترانزستور وآخر لتصل إلى 5 نانومتر..
ولنتخيل ذلك.. فإن قطر شعرة الإنسان يصل إلى 100 نانومتر ويصل قطر الفيروسات إلى 20 نانومتر.
وإذا كنت من محبي الألعاب الإلكترونية، فبالتأكيد تعلم عن بطاقة الرسوميات Graphic card لشركة Nvidia من طراز GEFORCE RTX 30.
هذه البطاقة تحتوي على العديد من "المعالجات" التي تضم 28.3 مليار ترانزستور في مساحة لا تزيد على عرض بـ 2.4 سنتيمتر والطول بـ2.7 سنتيمتر.
ا فإن التدخل البشري محدود أو معدوم للغاية عند صناعة الرقائق الإلكترونية، إذ لا يمكن لمس الرقائق أو تعريضها للهواء أثناء عملية التصنيع، فإن أي ذرة غبار قد تسبب تلف الرقاقة.
فالهواء في المصنع يجب أن يكون نظيفا للغاية وبحدود تصل إلى 10 جسيمات من الغبار لكل متر مكعب من الهواء مقارنة بـ 10 آلاف جسيم من الغبار في غرف الجراحة.
حبات الرمل.. الذهب الرقمي ووقود العصر الحديث
تصنع الترانزستورات من أشباه الموصلات، وهي مجموعة صغيرة من العناصر مثل السيليكون.
السيليكون هو من أشباه الموصلات الأكثر استخداما لإنتاج الرقائق الإلكترونية، ويوجد السيلكون في الرمال، وهو ثاني أكثر العناصر وفرة على سطح الأرض بعد الأكسجين.
نعم، الرمال التي تعد أكثر الموارد الطبيعية استخداما على كوكب الأرض، إذ تستخدم في المباني والبنية التحتية وصناعات مثل الزجاج وحتى أثناء التنقيب عن النفط والغاز.
ومع ذلك فإن نوع الرمال الذي يستخدم في صناعة أشباه الموصلات يجب أن يكون عالي الجودة وعالي النقاء، وهذا ما يفسر أن إنتاج السيلكون يصل إلى 30 ألف طن فقط سنويا مقارنة بـ40 مليار طن من تعدين الرمال لأغراض البناء والصناعة عالميا.
ومع العلم، فإن الصين تعتبر أكبر منتج للسيليكون في العالم بحجم 6 آلاف طن سنويا تليها روسيا (580 طنا) ثم الولايات المتحدة في المرتبة الخامسة بـ(310 أطنان).
أوكرانيا وغاز النيون
عندما بدأت الأزمة الأوكرانية، كانت المخاوف العالمية تركز على إمدادات الحبوب والغذاء..
لكن في قطاع التكنولوجيا كانت المخاوف تركز على عنصر مهم يستخدم أثناء الصناعة الدقيقة للرقائق الإلكترونية.. إنه غاز "النيون".
فبحسب رويترز فإن أوكرانيا تسهم بما بين 45% و54% من إنتاج النيون عالميا لقطاع الرقائق الإلكترونية، وهو غاز بالغ الأهمية بالنسبة لأجهزة الليزر المستخدمة في صناعة الرقائق.
تصنيع الرقائق الإلكترونية.. من.. ماذا.. أين؟
التعقيد في قطاع الرقائق الإلكترونية، لا يقتصر على التصنيع فحسب، بل يمتد إلى كيفية عمل هذا القطاع برمته.
فهذا القطاع ينقسم إلى ثلاث فئات رئيسية:
- شركات تقوم بالتصميم والتطوير مثل NVIDIA التي تعتمد على شركات لتصنيع منتجاتها..
- شركات تقوم بالتصنيع فقط مثل TSMC التي تقوم بتصنيع الرقائق لشركات أخرى مثل NVIDIA وAMD.
- شركات تقوم بالتجميع.
وهناك شركات تقوم بالأنشطة الثلاثة معا، مثل "إنتل" و"سامسونغ".
نكتفي بهذا القدر، ونعود إلى موضوعنا الأساسي.. ما علاقة كل ذلك بتايوان؟
أهمية تايوان للعالم..
استطاعت تايوان خلال العقود القليلة الماضية أن تتخذ لنفسها مكانة عالمية في تصنيع الرقائق الإلكترونية، فها هي الآن تستحوذ على أكثر من ثلثي الإنتاج العالمي.
فيكفي أن لديها شركة واحدة TSMC تستحوذ على أكثر من نصف الإنتاج العالمي من الرقائق الإلكترونية، وتعتبر موردا رئيسيا لشركات عملاقة مثل "أبل".
لذا فإن أي توترات جيوسياسية أو مخاطر تهدد تايوان.. يعني ذلك أنها قد تهدد الاقتصاد العالمي كذلك، إذا ما تعطل إمداد الرقائق إلى العالم.
رقائق صغيرة.. مسألة أمن قومي
بعد اندلاع أزمة نقص الرقائق خلال العامين الماضيين – أثناء وباء كورونا- أصبح الأمرُ مسألة أمن قومي للاقتصادات الرئيسية، نظرا لما تمثله الرقائق للحضارة البشرية الحديثة.
فنجد مثلا الولايات المتحدة بصدد إصدار قانون يقدم 280 مليار دولار لتعزيز إنتاج الرقائق الإلكترونية محليا والأبحاث والقطاعات المتعلقة بها.
كوريا الجنوبية تبنت برنامجا بقيمة 450 مليار دولار حتى عام 2030 للاستثمار في هذا القطاع وتعزيز التنافسية.
أما في الصين فقد أنشأت صناديق استثمار وطنية لتمويل مشروعات تصنيع الرقائق الإلكترونية.
ورغم ذلك، فإن التعقيد لا يتعلق فقط بالتصنيع، ولكن بالجدوى الاقتصادية كذلك، فبحسب وكالة بلومبيرغ الأميركية، فإن بناء مصنع بطاقة إنتاج 50 ألف رقاقة شهريا، يحتاج إلى 15 مليار دولار على الأقل أغلبها ينفق على الأجهزة والمعدات المعقدة.
حتى بعد بناء المصنع فهناك عقبة أخرى.. تتمثل في التقادم.. إذ أن المعدات والأدوات تصبح متقادمة تكنولوجيا في غضون خمسة أعوام أو أقل.
ما فرص الاستثمار؟
ومع ذلك، فإن هناك العديد من الفرص التي تأتي من قلب هذا التعقيد كله.
فمع هذا التوجه الجديد، فإن الشركات التي قد تحقق الاستفادة الأكبر قد تكون الشركات التي تصمم وتصنع الآلات المعقدة المستخدمة في صناعة رقائق الذاكرة..
لدينا مثلا شركة ASML الهولندية رائدة صناعة معدات وأنظمة تصنيع الرقائق الإلكترونية، بقيمة سوقية للشركة تصل إلى أكثر من 228 مليار يورو.
وللعلم فإن سهم الشركة قفز من 265 يورو في بداية 2020 ليصل إلى 796 يورو بنهاية 2021 أي بزيادة 169%.
أو شركة Applied Materials الأميركية التي تقدم معدات وأنظمة تصنيع الرقائق كذلك بقيمة سوقية للشركة تصل إلى أكثر من 95 مليار دولار..
وقفز سهمها في ذروة أزمة نقص الرقائق بين عامين 2020 و2021 بـ158%، أي أن كل 1000 دولار استثمرت في بداية 2020 أصبحت تساوي 2580 دولارا بنهاية 2021.
والقائمة تطول..