حين برزت دبي كنموذج فريد في العالم قبل عدة عقود، حاول كثيرون تقليد ذلك النموذج. ومع تطور أبو ظبي كنموذج فريد أيضا في الإمارات، يختلف عن دبي ولكنه يكمل صورة منحى تطور إماراتي، تكررت محاولات التقليد.
وفي كل مرة كانت النسخ المختلفة تأتي باهتة لأسباب عدة. ولا يعود ذلك للثراء المالي، فهناك بلد ربما أغنى من الإمارات ويشترك معها في كثير من العوامل التاريخية والاجتماعية، لكن محاولته بناء أبو ظبي أو دبي كامتداد لعاصمته جاءت أقرب للمسخ.
أما المحاولات الأخرى فلم تفلح في أن تكون ذلك النموذج ولا هي أبقت على خصائصها السابقة التي كان يمكن لتطويرها والبناء عليها أن ينتج شيئا مختلفا وأكثر جودة من النتيجة التي وصلوا إليها. وأتصور أن الأمر لا يعود للإمكانيات وعوامل التاريخ والإرث الحضاري والتكوين السياسي/الاجتماعي فحسب، بل إن حسابات المصالح عامل حاسم، في تطور المدن والدول والأمم والشعوب على مر التاريخ، وربما هذا ما لا يدركه المقلدون للنماذج الناجحة.
فما ينجح بالنسبة لأميركا مثلا أو الصين، ليس بالضرورة المثال الأفضل لنجاح زيمبابوي أو الأرجنتين. حتى في المجتمعات التي تعيش على تاريخ قديم، ليس ما تراه في بعض دول أوروبا القديمة صالحا لها كنموذج للتطور والتحديث. فمحاولة جعل سريلانكا أو باكستان مثل بريطانيا أو البرتغال ستأتي في النهاية بنتائج ممسوخة ومشوهة.
مع ذلك، تجد كثيرين لا يجهدون أنفسهم في الاستفادة من النماذج الناجحة ويكتفون بالتقليد على اعتقاد أن ذلك سيجعل مدنهم ومجتمعاتهم وبلدانهم متطورة وحديثة ومتقدمة. ذلك التقليد الذي لا يستند إلى حسابات المصالح المبنية على الماضي والتي تستهدف تجاوز الحاضر لتطوير مستقبل أحدث وأفضل.
يمكنك أن تستأجر أمهر الخبراء في العالم، من أوائل الاقتصاديين وأكثر المهندسين إبداعا إلى آخره، لكنك ما لم تضع أنت لهم إيجازا برؤيتك المستندة إلى ماضيك والتي تشخص حاضرك فلن تكون جهود هؤلاء لصياغة مستقبل أفضل لك مفيدة. نعم، سيبذلون ما بوسعهم ويبتكرون ما يرونه مناسبا لكنه في النهاية لن يحقق مصالحك التي تبغي.
نرى ذلك حولنا الآن في كثير من المجالات ونشاطات البشر في أركان العالم المختلفة، وإنما ضربت أمثلة للتقريب لكن القياس عليها جائز في أمور أخرى كثيرة. ولنأخذ على سبيل المثال وضع بريطانيا التي خرجت من الاتحاد الأوروبي (بريكست) قبل عامين. كان شعار المروجين لذلك الرئيسي هو أن بريطانيا خارج أوروبا ستكون قادرة على التطور – خاصة اقتصاديا – لتصبح مثل أميركا. ومنذ ذلك الحين، والوضع الاقتصادي البريطاني يتدهور ليس عن مستوى أميركا وحتى أقرانها الأوروبيين الذين انفصلت عن اتحادهم بل ربما يتجه ليكون أسوأ من فيتنام.
نعم، فيتنام، التي بدأت منذ سنوات تقلد النموذج الصيني في التنمية والتطوير الاقتصادي وتشيد بها تقارير المؤسسات الدولية من صندوق النقد إلى البنك الدولي. لكن فيتنام استفادت من مثال الصين ولم تقلده تماما، بل أيضا استفادت من نماذج حديثة مثل الهند وأمثلة تقليدية قديمة مثل اليابان. أي أن الفيتناميين قدروا حسابات مصالحهم بشكل معقول، وإن لم يكن بالشكل الكامل تماما، لكنها حسابات مصالح يمكن البناء عليها وتطويرها بالتعلم من الأخطاء والنتائج التي لا تأتي بما هو متوقع.
أما بريطانيا، فبنت كل توجه البريكست على عوامل أيديولوجية (شعبوية وليست أصيلة) تهيج المشاعر للعامة لهدف آخر تماما يخص فئة من المنتفعين بانتهازية من التحرر من القيود والقواعد الأوروبية التي تقلل من الفساد وغيره. ليس معنى ذلك أنه لا يوجد فساد في أوروبا، لا أن بريطانيا ليست لديها عراقة في الفساد المقنن. ولكن لأن تلك النخب الجديدة تميل للاستسهال والسطحية وتتصور أن النموذج الأميركي يناسبها أكثر.
وفي ذلك إغفال شديد الخطورة لخصوصية بريطانيا، حتى لو كانت الأجيال التي بنت أميركا واستراليا قبل بضع مئات السنين أصلها من بريطانيا وبقية أوروبا. لكنها مختلفة تماما، وبنت مجتمعات "على بياض" متحررة من كل الأصول السابقة لأسلافها. ناهيك طبعا عن أن تلك النخب لا تحسب مصالح المجتمع البريطاني ككل، بل فئة محدودة جدا من أصحاب الأعمال المنتفعين. هذا الخطأ الفج في حسابات المصالح هو ما أودى ببريطانيا إلى هذا الوضع الذي يقترب من المسخ: فلا هي تحقق أن تصبح أميركا، ولا هي بقيت ضمن أوروبا التقليدية.
هذا الخلل في حسابات المصالح لم يؤت أؤكله كاملا بعد، إنما تبدو المؤشرات من بدايته خلال العامين المنصرمين. ويعاني الشعب البريطاني الأوسع بالفعل من نتائجه، بغض النظر عن محاولة السياسيين الترويج بأن حرب أوكرانيا هي السبب. حتى المزايدة في موضوع العقوبات على روسيا من جانب حزب المحافظين الحاكم لا تختلف كثيرا عن تلك الشعارات الشعبوية المضللة التي استخدمت في استفتاء عام 2016 لدفع الناس للتصويت لصالح بريكست.