كان متوقعا ومنتظرا أن تسقط السرديات الكبرى تباعا في اختبار النجاعة والحلول الاقتصادية الفعالة.
تهاوت تلك السرديات، لأسباب مختلفة، لأنها وضعت مسطرة نظرية دعت الواقع المتحرك لأن يستجيب لها، بدل أن ترسم أفكارا تستجيب لتغيرات الواقع.
وفي واقعنا العربي انتهى الحديث عن القومية والوحدة العربية وثبت عقمه وفشله، أولا لأسباب متعلقة بطوباوية الفكرة نفسها، وثانيا لأن الوقائع العربية والتشكل التدريجي لوطنية المواطنين العرب أثبتت أن الفكرة تحولت إلى محض خيال وشعارات.
في عقود الستينات والسبعينات شهدت الأفكار القومية ازدهارا كبيرا في كل الدول العربية، وكان ذلك مترتبا عن تداخل أسباب كثيرة، منها ما هو متعلق بصعود أنظمة تتبنى تلك الأفكار وتحولها إلى لغة رسمية عربية، ومنها ما ينطلق من الإسناد الإعلامي والفكري والفني التي كانت تلقاه تلك الأفكار، ومنها أيضا ما ترتب عن الصراع العربي الإسرائيلي واضطرار المواطن العربي إلى البحث عن حلول لتلك القضية في الأدبيات القومية التي كانت تصدر شعارات غاضبة تلقى رواجا عاطفيا لدى الجماهير المتعاطفة مع الحق الفلسطيني، خاصة وأنها جماهير خارجة لتوها من استعمارات غربية متنوعة.
المفارقة في الأمر أن تلك الأنظمة القومية أجلت الاهتمامات التنموية والديمقراطية بتعلة التفرغ للقضية الفلسطينية، وقايضت التقدم التنموي لشعوبها بضرورة تركيز الأصول على خوض المعركة، وهددت بإلقاء إسرائيل في البحر، لكن كل ذلك لم يحصل وانتبه المواطن العربي لاحقا إلى أن القضية لم تتحرك قيد أنملة، مع خسارة سنوات وعقود كان يمكن أن توظف لبناء دول مزدهرة اقتصاديا ومتعافية سياسية.
كانت الخسارات السياسية والاقتصادية تسير بالتوازي مع الهزائم المسجلة في سياق القضية الفلسطينية، ولذلك "كفر" المواطن العربي بتلك الشعارات المقاومة والممانعة التي تحولت إلى مجال سخرية وتندر، خاصة بعد انضمام أقطار غير عربية إلى سباق ركوب القضية.
وفي سياق متواز كان للتحولات العلمية والتكنولوجية المتسارعة التي عاشها العالم في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، أثرا بالغا على الأفكار الماركسية والإسلامية والقومية، التي وجدت نفسها غير قادرة على مواكبة تلك التحولات، وغير مؤهلة- باعتبار قدمها وجمودها- على الإجابة على أسئلتها الكثيرة.
وكان للعولمة أثر آخر في نشأة عالم جديد لا يحفل بالشعارات، بقدر ما يركز على التقاط كل فرص النجاح والربح والبناء.
في هذا السياق وجدت الأفكار القومية العربية نفسها في مواجهة مأزقين: مأزق فكري يقتضي تعريفا جديدا للمهمات الوحدوية التي تطرحها القومية على نفسها، ويتطلب تفكيرا في المآزق الجديدة ذات الصلة بمفاهيم الأمة والوطن العربي وأساليب الوحدة العربية وأولوياتها.
أما المأزق الثاني فهو شعبي وجماهيري إذ أن الأفكار القومية لم تعد تجد رواجا عند المواطنين العرب الذين تدربوا طيلة عقود من الاستقلالات الوطنية على انتماءات وطنية لا تعترف بها الأفكار القومية، بل تعتبرها انتماءات فرعية مقابل الانتماء إلى الأمة العربية.
لا ينفي المواطن السعودي أو المغربي أو السوري انتماءه إلى أمة العرب، لكنه يعتبره مجرد انتماء حضاري وثقافي، مقابل وطنيته التي تكونت طيلة عقود طويلة شهدت خلالها الأقطار العربية أحداثا وتجارب ساهمت في تثبيت انتماء كل فرد عربي إلى وطنه.
اليوم نشهد تفاوتا كبيرا بين دول عربية آمنت مبكرا بضرورة التفرغ لبناء اقتصاداتها والبحث عن مصالحها، وبين دول أخرى دأبت على ترديد الشعارات الوحدوية، فضلت طريق الوحدة الوهمي وأضاعت سبل بناء دولة قوية واقتصاد مزدهر.
هذا التفاوت زاد في "كفر" المواطن العربي بتلك الشعارات التي ارتبطت عنده اليوم بالفقر وغياب التنمية والاستبداد وإهدار الأموال في مشاريع التسلح والاستعراضات العسكرية.
الدول العربية التي حاولت استنهاض همم شعوبها، وسعت إلى حسن استثمار مواردها الطبيعية، نجحت في بناء تنمية حقيقية، نراها اليوم ماثلة في مدن عصرية نظيفة تضاهي أكبر مدن العالم في التطور والحداثة، لكن نجاحها لم يحل دون إيمانها بأنها تقع في فضاء حضاري وثقافي اسمه العالم العربي والإسلامي، فكان ذلك منطلقا لتواصل التعاون العربي من دون المساس بسيادتها الوطنية أو باستقلالية قرارها. لم تغّلب الدول العربية المزدهرة اليوم المسألة القومية على المسألة الوطنية، بل نجحت في التوفيق بين الأمرين، والتفريق بين الوطنية والانتماء الحضاري.
المفارقة الأخرى أن التيارات والأحزاب القومية العربية وقعت في مطبّات سياسية خطيرة حين تحالفت مع أنظمة ودول وتيارات إسلاموية تعادي الأمة العربية، لكنها تلتقي مع التيارات القومية في الركوب على صهوة القضية الفلسطينية مرة باسم الدفاع عن المقدسات الإسلامية، ومرات باسم مقاومة الاستكبار العالمي، ولعلنا نذكر أن مساندة تيارات يسارية وقومية للثورة الإسلامية في إيران كان مثار خلافات فكرية عميقة في ذلك الوقت، باعتبار أن تلك المساندة تتناقض في الجوهر مع الأدبيات القومية والشيوعية.
المثير في الأمر أن الدول العربية التي تخلصت من كل الأفكار الطوباوية الحالمة، هي أكثر الدول انخراطا في التعاون العربي الحقيقي، لا الانخراط في محاور أيديولوجية عمقت التخلف العربي وزادت في توسيع مساحات الشقاق العربي.
ينظر المواطن العربي المعاصر في الجزائر أو في تونس أو ليبيا أو في سوريا إلى سجل النجاحات المسجلة في دول عربية شقيقة، ولا يجحد في أسبابها ومنطلقاتها أي سطر فكري مسقط أو مستورد، بل إن كل دواعي النجاح نابعة من حرص على ملائمة المشاريع والبرامج مع واقع تلك الدول، ولذلك كانت الخطوات ثابتة ورصينة لأنها نأت بنفسها عن الصراخ الأيديولوجي وبحثت عن مصالحها ومصالح شعوبها.
المثال على ذلك أن بعض الدول العربية قرأت الخطر الإيراني بتمعن بعيد عن الشعارات، وقدرت أن النظام الإيراني يهدد مصالحها ومصالح شعوبها، وأن تباهيه باحتلال أربع عواصم عربية هو قرينة على أن هذا النظام لا يريد خيرا لدول الجوار، وأن ادعاءه مساندة القضية الفلسطينية هو مجرد شعار لتضليل الشعوب الإيرانية أولا، ومغازلة العواطف الإسلامية ثانيا.
وعندما ذهبت بعض الدول العربية إلى البحث عن مصالحها وتطبيع العلاقات مع إسرائيل في سياق فهم مرن للقضية الفلسطينية، قوبل ذلك بمواقف رسمية متشنجة من الدول التي لم تقدم شيئا لفلسطين ودأبت على ترديد شعار مناهضة التطبيع دون أن تقدم بديلا مفيدا لبناء الاقتصاد أو لتحريك القضية العربية الأولى.
الواضح اليوم أن القومية العربية فشلت في تحويل شعاراتها إلى حقائق سياسية واقعية، وضيعت على الدول العربية عقودا طويلة ذهبت هدرا في إطلاق الشعارات، فتهاوى الاقتصاد وضاعت القضية واستحال تطبيق الديمقراطية.
فشلت القومية العربية في أن توحد العرب بل نجحت في زرع المزيد من الشقاق، ولذلك أصبح صائبا اليوم الدفاع عن خرائط سايكس بيكو لأنها تمثل منطلقا لبناء دول عصرية منخرطة في العالم ترى مصالح شعوبها أولا، ولا تتخلف عن التعاون العربي، لكنها لا تخجل من تغليب وطنيتها على قوميتها المفترضة.
"سَطَتْ" الأفكار القومية على العروبة باعتبارها انتماء حضاريا وثقافيا أصيلا، وحولتها إلى ميدان شعارات ومبرر استبداد.
لم تمت العروبة في مختلف الجغرافيات العربية، لكن القومية أفلت بسبب عجزها عن اجتراح أجوبة لأسئلة الاقتصاد والتنمية والبناء.