تشير التغطية الإعلامية للكوارث التي واجهتها دول أوروبية في الأيام الماضية نتيجة حرارة الجو إلى أن الناس وكأنها فوجئت بنتائج التغير المناخي للكرة الأرضية. مع أن مؤشرات تلك التغيرات واضحة للعيان منذ سنوات، وإن لم تكن أدت بعد إلى هذا الحجم من الضرر على حياة البشر والزرع والضرع.
فرغم التصريحات الرسمية وحملات نشطاء البيئة في العقد الأخير بشأن مكافحة التغيرات المناخية والحد من الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري، إلا أن ما فعلته دول العالم - خاصة الصناعية الكبرى - لم يعكس حجم الاحساس بالخطر كما صوره الإنشاء السياسي. وظلت كثير من التعهدات، بما فيها ما تم الاتفاق عليه في مؤتمر باريس عام 2015، مجرد وعود لا أكثر.
بدا الأمر وكأن الناس تتعامل مع تبعات التغير المناخي وأضرارها على البشر بطريقة جحا حين قيل له إن النار اشتعلت في القرية فرد بأنها طالما بعيدة عن بيته فلا يهمه، حتى اشتعلت النار في بيته بل وفي طرف ثوبه. وهذا ما حدث منذ نهاية الشهر الماضي مع درجات الحرارة غير المسبوقة في أوروبا وبريطانيا والتي أتت على عشرات آلاف الأفدنة من المزروعات في إسبانيا وفرنسا والبرتغال، بل وشلت الحركة تماما في بلد مثل بريطانيا.
المتوقع إذا أن تكون تلك الدول، بالإضافة إلى دول أخرى مثل أستراليا وغيرها ممن يشهدون أعراض التغير المناخي سنويا بشكل متصاعد، أدركت الآن أن هناك كارثة حقيقية تهدد حياة مليارات البشر على كوكب الأرض وتتطلب التصرف الحاسم والعاجل. لكن للأسف، ليس هناك ما يدل على ذلك حتى الآن. بل على العكس، هناك من لا يزال يبرر ضعف التحرك العالمي لمواجهة تغير المناخ بأن البشرية قادرة على "التكيف" مع التغيرات المناخية مستندا إلى الحكمة التقليدية بأن "الطبيعة تجد طريقتها في استمرار الحياة".
صحيح أنه منذ بدء الخليقة تجد الطبيعة وسيلة للاستمرار، وهذا هو جوهر التطور بشكل عام. لكن نشاط البشر الذين تزداد أعدادهم على كوكب محدود المساحة والموارد وتطور هذا النشاط وزيادة تعقيده مع ما يحتاجه ذلك من موارد، خاصة الطاقة، تحد من قدرة الطبيعة على الاستمرار والبشر على التكيف. على سبيل المثال، كانت فترة أزمة وباء كورونا فرصة ليتوقف البشر عن النشاطات الكثيفة الانبعاثات الكربونية، وتصور البعض أن وجود الناس في منازلهم للوقاية من انتشار الوباء خلص الغلاف الجوي من قدر كبير من الانبعاثات من عوادم السيارات وغيرها. لكن الحقيقة أن الناس في بيوتهم زادوا من استهلاك الطاقة الكهربائية لممارسة نشاطهم أونلاين. وتجاهلنا أن تلك الطاقة يتم توليدها في محطات تزيد من الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري.
منذ الصيف الماضي، ومع زيادة الضغط على شبكات الكهرباء عادت دول كثيرة إلى تشغيل محطات الطاقة التي تعمل بالفحم بعدما كانت أوقفتها لإخراجها من الخدمة تماما تلبية لأهداف مكافحة التغير المناخي التي التزمت بها. ثم جاءت حرب أوكرانيا والعقوبات الغربية على روسيا وما صاحبها من أزمة طاقة مفتعلة. ويبرر السياسيون عدم الالتزام بأهداف الحد من تلويث البيئة بعوامل "طارئة وخارج نطاق سيطرتهم". ذلك غير صحيح تماما، ففي النهاية تبحث الدول الصناعية والغنية عن أي مبرر غير سياساتها هي للتملص من تحمل مسؤوليتها عن تلويث الغلاف الجوي بما أدى إلى ما نشهده الآن من ضرر.
المشكلة في جذرها أنه ليس هناك عدل في توزيع عبء مكافحة التغيرات المناخية حسب مسؤولية التلويث البيئي. فالاقتصادات الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة والصين، هي المسؤول الأكبر عن الانبعاثات التي تسبب الاحتباس الحراري. لكن الضرر لا يصيب تلك الدول ومحيطها فحسب، بل كل من يعيش على الكوكب وتحت غلافه الجوي. فهل ننتظر تحقق هذا العدل المناخي بعدما وصلت نيران التغيرات المناخية إلى ذيل ثوب جحا الصناعي الغني؟ نأمل ذلك.
يحذر خبراء المناخ في الأمم المتحدة من الزيادة في درجة حرارة الأرض وصلت أو على وشك الوصول إلى مستويات قد يصعب بعدها تغيير الوضع. ويعني ذلك أن نتوقع مزيدا من آثار التغيرات المناخية بما يتضمنه ذلك من أضرار أكبر لا تقتصر على الحرائق وتعطل الحياة على اليابسة. بل أيضا تأثيرها على التوازن الحيوي في بيئة حياتنا بالقضاء على كائنات تضمن ذلك التوازن وربما بشكل أخطر على تركيبة الكوكب من مساحات مياه ويابسة مع ذوبان التكتلات الجليدية من سيبيريا إلى المناطق القطبية.
لكن الثقة في العلم تدفع على التفاؤل وقدرة الإنسان على مواجهة تحديات الطبيعة، خاصة إذا كانت نتاج ما صنعته يداه بنشاطه على الأرض. ولعل في مؤتمر المناخ القادم في شرم الشيخ بمصر الذي يعقد في نوفمبر القادم فرصة لحفز دول العالم على التصرف بسرعة وحسم. لكن ذلك لن يكون له تأثير كبير ما لم نقر بعدم وجود عدل مناخي، أي أن تستجيب الدول الصناعية الكبرى والغنية لدعوات مساعدة الدول النامية والفقيرة على تطوير سياسات تحد من تلويث الجو. وليس ذلك بمعونات ومساعدات مباشرة فحسب، بل باستثمار الدول الكبرى في تلك الدول ضمن مشروعات طاقة نظيفة وغيرها من المشروعات الزراعية التي تسهم في امتصاص الكربون من الجو.