كان اختيار نوري كامل المالكي لرئاسة الوزراء عام 2006 خيارا أمريكيا شيعيا مشتركا، وكانت الأسس التي اختير وفقها أنه عروبي وغير خاضع للتأثير الإيراني، وأنه سياسي إسلامي قريب من المزاج الشعبي الشيعي المنسجم مع الولايات المتحدة حينها.

وقد وصف الرئيس جورج بوش المالكي بأنه "الشخص المناسب للعراق"، كما تباهى السفير الأمريكي في العراق حينها، زلماي خليل زاد، بأنه هو من اختار المالكي للمنصب، وقد دوَّن ذلك في كتابه "المندوب"، قائلا إن المالكي غيَّر ولاءه لاحقا، بسبب الانسحاب الأمريكي من العراق واختلال موازين القوى لصالح إيران!

لكن الرياح لم تجرِ بما اشتهت السفن. فالمالكي الذي بدا وديعا ومطيعا ومبتدئا حين اختياره، قد تحول تدريجيا إلى مركز قوة متنامية، وعمل على تمكين أقاربه وأتباعه من الوصول إلى مراكز مهمة في الدولة، وهؤلاء ردوا له الفضل باتباع توجيهاته وتنفيذ أوامره، حتى أصبح الآمر الناهي في كل مؤسسات الدولة، وقال صراحة في خطاب جماهيري عندما طالبه أحد أتباعه بألا يتخلى عن السلطة (من يستطيع أن يأخذها منا بعد اليوم كي نعطيها له؟) تلك المقولة التي اختصرها العراقيون بعبارة (ما ننطيها)!

ومع اقتراب نهاية ولايته الأولى، تمكن المالكي من تهميش القوى الشيعية الأخرى كالمجلس الأعلى والتيار الصدري وحزب الفضيلة، واستقطب إلى جانبه علمانيين وقوى عشائرية وعلمانية صغيرة، ومكَّنها على حساب القوى العلمانية الرئيسية، وهي حركة الوفاق الوطني، بقيادة أياد علاوي، وحزب المؤتمر الوطني، بقيادة أحمد الجلبي، وجبهة الحوار الوطني بقيادة صالح المطلك.

وانتهى الأمر بتلك القوى إلى التهميش الكلي، إذ لجأ الجلبي إلى الترشح مع "المجلس الإسلامي الأعلى" كي يصل إلى البرلمان، بينما لجأ المطلك إلى القوى الطائفية السنية، التي تبدِّل اسمها مرتين في العام على الأقل، واصطف معها حتى خرج كليا من العمل السياسي. أما أياد علاوي، فقد تناقص مؤيدوه بسبب فرديته وتراكم أخطائه، وتهميش المالكي المتواصل له ولأتباعه، فخرج كليا من العمل السياسي بعد تقدمه في السن، وأوكل مهمة قيادة حزبه لابنته الشابة، ولم يعد له أي تمثيل في البرلمان أو الحكومة.

وبحلول الانتخابات البرلمانية الثانية، شكَّل المالكي قوة سياسية ومؤسساتية قاهرة، وحقق فوزا منفردا في الانتخابات على خصومه من الجماعات الشيعية المتفرقة، فحصل على 89 مقعدا، بينما حصل منافسوه الشيعة، الرافضون لتمدد سلطته، على 70 مقعدا. لكن القوى العلمانية والإسلامية السنية غير المتجانسة، اصطفت اصطفافا اضطراريا، لكنه مصيري، في جبهة موحدة ظاهريا وخاوية داخليا، بقيادة أياد علاوي، وتمكنت من الحصول على 91 مقعدا، لتصبح القوى الفائزة في الانتخابات، بمقعدين اثنين فقط.

لم يركن المالكي لهذا الفوز، ولم يعترف به، بل فسره بأنه مؤامرة سنية لاستعادة السلطة من الشيعة، وظهرت نوازعه الطائفية بشكل جلي عام 2010، فعاد مضطرا إلى خصومه الشيعة، مستعينا بإيران، كي تعيدهم بعصا الولاء إلى حضن الطائفة التي أصبح المالكي زعيما قسريا لها.

وبعد تسعة أشهر من الصراع والجدل والمناورات والتدخلات القضائية والإيرانية والأمريكية، والانشقاقات المتتالية ضمن القائمة الوطنية الفائزة، رضخت القوى الشيعية والسنية إلى إرادة المالكي، فشكَّل حكومته الثانية، المكونة من 45 وزيرا لتكون أكبر حكومة في التأريخ (عدد الوزراء في الصين 21 وفي الهند 28). وبعد إقرار البرلمان تلك الحكومة، قلصها المالكي إلى 33 وزيرا تحت ضغوط شعبية ودولية.

وقد برهنت الأحداث المعروفة للعراقيين والعرب جميعا، بأن حكومة المالكي الثانية كانت كارثة على العراق والمنطقة والعالم، إذ سقطت في عهدها ثلاث محافظات بأيدي داعش، وكادت ثلاث أخرى أن تسقط لولا أن يهبَّ العراقيون، ومعهم المجتمع الدولي، لنجدة العراق وتخليصه من فكي الإرهاب، وكان ذلك بثمن باهظ، مازالوا يدفعون فواتيره، وقد يستمرون في دفعها لعقود مقبلة.

وفي تلك الفترة انتبه الشيعة، ومرجعهم الديني الأعلى، السيد السيستاني، إلى أن بقاء المالكي سيشكل خطرا ليس على الشيعة فحسب، بل على العراق ككل، فأوعز إلى قادة حزب الدعوة بضرورة استبدال المالكي بشخصية غير جدلية كي يقود المرحلة المقبلة. وفعلا استُبدِل بحيدر العبادي، الذي واجه ظروفا استثنائية صعبة جدا، ليس أقلَّها أن ثلث العراق تحكمه جماعة داعش الإرهابية، وفي الوقت نفسه، واجه معارضة شديدة من المالكي وأتباعه، عرقلت عمل حكومته، إذ تمكنوا من إقالة وزيري الدفاع والمالية،

وأصدروا قانونا يشرع لوجود الجماعات المسلحة رسميا، ويلزم الدولة بدفع رواتب مسلحيها. لكنه مع ذلك قاد الحكومة إلى الخلاص من داعش أولا، والتخفيف من الصراع الطائفي الذي أججه المالكي بخطابه الفاقع في الطائفية، إذ قسَّم العراقيين إلى "أتباع يزيد وأتباع الحسين"، ونصَّب نفسه قائدا لأتباع الحسين!
وبدلا من أن ينسحب من العمل السياسي ويتقاعد بهدوء، بعد الكوارث التي أوصل العراق إيها، ظل المالكي متشبثا بكل قشة يجدها للبقاء في المشهد، وتمكن أن يبقى أمينا عاما لحزب الدعوة الإسلامية، الذي انقسم في عهده مرتين، مرة بعد إقصاء الجعفري عن قيادته عام 2007، والثانية بعد تمرد العبادي عليه، بمساعدة قيادات الدعوة الأخرى عام 2014، ليصير الحزب هامشيا في ظل قيادته، وغير قادر على أن يتقدم للناخبين بقائمة علنية باسمه، بل ظل يتخفى تحت أسماء أخرى، ولم يسعَ للتحرر من سطوة المالكي حتى الآن.

قبل أسبوع تقريبا ظهرت تسجيلات مسربة عن حديث خاص للمالكي مع جهة شيعية مسلحة موالية له، أطلق فيها العديد من الاتهامات ضد التيار الصدري وزعيمه مقتدى الصدر، وكيف أنه سعى لتقسيم الشيعة وتسهيل عودة السنة إلى الحكم! ومن جملة ما قاله المالكي في هذه التسريبات، التي أصبحت مسلسلا ترفيهيا ينتظره العراقيون يوميا، إنه لا يخشى أحدا وإن بإمكانه أن يحتمي بألفي شخص من عشيرة (بني مالك) التي ينتمي إليها!

كان المالكي في بداية بروزه السياسي عام 2006 قد قدَّم نفسه قائدا وطنيا عراقيا، وأنه يسعى إلى بناء "دولة القانون" حتى أنه أطلق على قائمته الانتخابية اسم "قائمة دولة القانون"! وعندما لم يستطع أن يصير ذلك القائد الوطني، أو أنه لم يسعَ إلى ذلك، بسبب قصوره الثقافي وضيق أفقه السياسي، وخلفيته الدينية الطائفية المنغلقة، استعان بالطائفة الشيعية كي يفرض سلطته على باقي مكونات الشعب العراقي، حتى من أبناء الطائفة المعارضين لنهجه السياسي، وقال في تصريح لجريدة الغارديان أنه شيعي قبل أن يكون عراقيا!

وبعد أن تقلصت خياراته الشيعية، احتمى بحزب الدعوة الذي عجز عن إزالته من موقع القيادة، وهذا إخفاق يسجل على الحزب، إذ كان بإمكانه أن يستبدله بقائد آخر كي يتبرأ من أخطائه وإخفاقاته وهفواته التي أضرت كثيرا بالدولة العراقية، وحتى بموقع الشيعة فيها، لكنه آثر الصمت الذي أضر بسمعته وقاده إلى البراري السياسية.

وبعد أن ضاقت السبل أكثر فأكثر بالمالكي، انتهى الآن إلى الاحتماء بالعشيرة، ولكن حتى هذا الخيار الأخير ليس متاحا، على ما يبدو، إذ صرح شيخ قبيلة بني مالك، أو أحد شيوخها، بعكس ذلك، مطالبا بإبعاد العشائر عن الخلافات والصراعات السياسية. وتذكِّر هذه النهاية بما آل إليه وضع صدام حسين، الذي بدأ قوميا عربيا اشتراكيا، ثم تقلصت خياراته بمرور الزمن فاعتمد ابتداءً على أبناء منطقته، ثم أفراد عشيرته، وانتهى به الأمر أن يفتك حتى بأفراد عشيرته وأصهاره!

تسريبات حديث المالكي الخاص مازالت تترى، إذ وعد الناشط المدني، علي فاضل، المقيم في الولايات المتحدة، بأنه سوف ينشرها على مراحل كي يبقى العراقيون يتأملونها، ولا ينسوا ما ورد فيها خلال فترة قصيرة. السيد مقتدى الصدر قال بعد نشر المقطع الأول من التسجيل إلى أن "هذا الكلام لا قيمة له"، لكنه قال لاحقا في تغريدة إنه تلقى تهديدا بالقتل من المالكي ودعاه إلى التقاعد عن العمل السياسي وتسليم نفسه للقضاء.

وكان المالكي قد نفى أن يكون التسجيل المسرب حقيقيا، قائلا ابتداء إنه مختلق كليا، ولاحقا إنه خضع لتشويهات وتحريفات عميقة. ولكن اتضح الآن لمعظم من سمعوه بأنه حقيقي وإن ما نسب للمالكي في التسجيل، قد قاله حقا بصوته الذي يعرفه الجميع.

لم يعد خافيا أن الجماعات الدينية الشيعية لم تحسن التصرف، عندما تولت الحكم، وأنها لم تتخلص من عُقَدِها الطائفية، وانحيازاتها العاطفية وعداواتها التأريخية، بل استخدمت السلطة لمحاربة بعضها بعضا وتجنيد المرتزقة وقتل الأبرياء وسرقة المال العام وتشويه صورة الشيعة والإسلام في العراق والعالم.
لقد آن الأوان أن تتدخل المرجعية الشيعية وتؤكد موقفها التأريخي وهو عدم استخدام الدين في السياسة، وأن على رجال الدين، والمبلغين والدعاة أن يبتعدوا عن العمل السياسي ويتركوه للسياسيين المحترفين، منصرفين لتأدية واجباتهم الدينية فحسب، وأن السياسي الذي يستخدم الدين أو المذهب، بأي طريقة، سواء في خطاباته السياسية أو أفعاله أو قراراته، أو يلجأ إلى استخدام الرموز والطقوس الدينية والأضرحة وأماكن العبادة للوصول إلى السلطة، إنما هو خارج عن الدين والمذهب، بل خارج عليهما.

على مر الأزمان، كان أبناء الطائفة الشيعية في العراق مساهمين في السياسة والثقافة والتعليم والتجارة والاقتصاد، ولم يتخذوا من المذهب أو الطائفة منطلقا أو عنوانا للمشاركة في أي مجال. وينطبق الأمر نفسه على الطوائف الأخرى في العراق، فالسنة والمسيحيون والصابئة والأيزيديون والكرد والعرب والتركمان، تصرفوا كمواطنين عراقيين في سلوكهم ونشاطاتهم، وإن كانت لديهم معارضة، أو مساندة، لسياسة أو إجراء ما، فإنهم يفعلون ذلك وفق أسس سياسية أو علمية أو مهنية، وليس وفق تصنيفات طائفية أو قومية أو مناطقية.

تدني الأداء السياسي والإداري الذي يشهده العراق منذ عام 2003 خطير جدا، فقد أضعف الدولة وأضر بتماسك المجتمع، وبالشيعة قبل غيرهم، بل أساء إلى سمعتهم وشوَّه صورتهم في العالم، وإن استمر على هذه الوتيرة، فسوف تمتد أضراره لأجيال مقبلة. لقد آن الأوان أن يتصدى له الجميع بقوة وعلى جميع الجبهات.