منذ 17 ألف عام، والحبوب هي المصدر الأساسي للغذاء، إذ بقي الإنسان يتناولها بطرق شتى، خضرةً أم جافة، نيئةً أم مغليةً أم مُقَلّاة، لكن القمح، الذي نبت أول مرة في الهلال الخصيب على شواطئ نهر دجلة قبل عشرة آلاف سنة، تميز بأنه الأفضل والألذ مذاقا والأكثر نفعا بين الحبوب، وبقي الخيارَ الأول في صناعة الخبز الذي صار رمزا للحياة.

وقد صارت للقمحِ قدسيةٌ عند شعوبٍ عديدةٍ، منها شعوبُ العالمِ العربي، إذ يتعامل كثيرون مع الخبز على أنه مقدس، ولا يجوز رمي بقاياه مع الفضلات، وعندما يسقط رغيف الخبر على الأرض، تسمع دائما عبارات الاستغفار. وفي الحضارة الرومانية، اقترن القمح باسم الآلهة سيريس (Ceres) التي اعتُبِرت "حاميةَ الحبوب" واشتُق منها الاسم اللاتيني للحبوب (cereals).

وعلى الرغم من أن هناك العديد من الحبوب والبقوليات والخضراوات، كالشعير والذرة والفول والحمص والعدس والبازلاء والبطاطا، تشترك مع القمح بالخصائص الغذائية نفسها، أي تحتوي على الألياف والكربوهيدرات والبروتينات النباتية، لكن القمح بقي سيدَ الغذاء ورمزَ الحياة، وصار رغيفُ الخبز المصنوعُ منه من أهم مقومات العيش، حتى صار الحدُ الأدنى للمستوى المعاشي يسمى خط الخبز (bread line) في معظم الثقافات، وفي ثقافتنا، صارت مصادر العيش تختصر كلها بالخبز، فعندما يتضرر المرء ماديا يوصف بأن (الخبز قد انقطع عنه).

ويُنتَجُ القمحُ في 122 دولة في العالم، وفق دراسة محَكَّمة نشرتها مجلة (World Population Review) العلمية، وينمو في مناخات مختلفة وأنواع متنوعة من التربة، ولكن أفضل مقومات إنتاجه هو هطول الأمطار بكثافة 12-36 إنج (أو 30-90 سنتمتر)، وأكبر الدول المنتجة له هي الصين والهند وروسيا، التي تنتج بمجموعها 41% من انتاج القمح العالمي، ثم تأتي الولايات المتحدة في المرتبة الرابعة وتأتي بعدها تراتبيا كندا وفرنسا وباكستان وأوكرانيا وألمانيا وتركيا. ولو عُد الاتحاد الأوروبي دولةً واحدة، لأصبح ثاني أكبر منتجٍ للقمح بعد الصين.

هناك مجالٌ كبير للتوسع في انتاج القمح في الولايات المتحدة الأمريكية، مثلا، لتوفر الأراضي الخصبة والمياه، إذ تبلغ المساحاتُ المزروعةُ بالقمح 50 مليون فدّان (مئتي مليون دونم). وتعتبر ولاية كنساس أكبر ولاية أمريكية منتجة للقمح، لخصوبة أراضيها وملاءمة مناخِها لزراعة المحصول، إذ يُقَدَّر بأن فدّانا من الأرض في كنساس يمكن أن ينتج قمحا كافيا لإطعام 9 آلاف شخص لمدة يوم واحد، وأن إنتاج كنساس وحدَها من القمح يمكن أن يُطعِم 6 مليارات إنسان لمدة أسبوعين، حسب تقديرات جمعية منتجي القمح الأمريكية. 

وإنتاج القمح ليس صعبا ويمكن معظم بلدان العالم أن تنتجه إن توفرت الأرض المناسبة، خصوصا وأنه لا يحتاج لماء وفير، كما هي حالُ الرز، مثلا، الذي يحتاج لأن تبقى مزارعُه مغطاةً بالمياه طوالَ فترةِ نموِّه إلى ما قبل الحصاد بفترة قصيرة. لكن المشكلة في إنتاج القمح هي الكلفة. في بعض البلدان، مثل روسيا وأوكرانيا والهند والصين وباكستان وتركيا، تكون الكلفةُ أقلَّ بكثير منها في الولايات المتحدة، مثلا، لكن الصين والهند يقطنهما 2.8 مليار من البشر، لذلك فإن معظم إنتاجهما يستهلك محليا. وبعد الأزمة الأوكرانية الروسية، اتخذت الهند، إلى جانب دول أخرى، قرارا بإيقاف تصدير القمح كي لا يؤثر ذلك على الأمن الغذائي لسكانها.

وأكبر منتجي القمح في العالم العربي هم مصر بالمرتبة الأولى إذ تنتج 9 ملايين طُن في العام، (أو 10 ملايين و500 ألف طُن حسب مصادر رسمية)، لكن مصر تحتاج إلى 18 مليون طُن لسد حاجتها المحلية من القمح. ووفقا للمصادر الرسمية، فإن مصر تسعى لرفع انتاجها من القمح ليسد 75 بالمئة من حاجتها، وهو ما يسميه المصريون "الاكتفاء الذاتي الآمن"، وذلك عبر زراعة القمح في بعض المساحات المخصصة لزراعة البرسيم، واستخدام مخلفات المنتجات الزراعية كعَلَفٍ للحيوانات بدلا من البرسيم المستخدم في إنتاج العَلَف. وتعاني مصر من نقص المياه بسبب إقامة إثيوبيا سد النهضة في أعالي نهر النيل، الذي قلّص، ومن شأنه أن يقلص المزيد في المستقبل، من كمية المياه الواصلة إلى كل من مصر والسودان.

ويأتي العراق في المرتبة الثانية بعد مصر، إذ يتجاوز إنتاجه 6 ملايين طُن، وكانت كافية لسد الحاجة المحلية عامي 2019 و2020، لكنها تراجعت إلى النصف عام 2021 (أو الثلثين حسب تقديرات الخبير الاقتصادي منار العبيدي)، وأنها ستتراجع أكثر هذا العام بسبب شح المياه. وتبلغ مساحة الأرض المزروعة بالقمح 9.4 مليون دونم، لكن القابل للحصاد منها لا يتجاوز الثلثين، وأن أكثر الأراضي المتضررة (2.7 مليون دونم) تقع في الموصل. السعة الإنتاجية للدونم الواحد متدنية، إذ تبلغ ثلث السعة الإنتاجية العالمية، حسب مصادر رسمية عراقية، ما يعني أن هناك إمكانيةً عاليةً لزيادة الإنتاج عبر تحسين طرق الزراعة والري.

وحسب الناطق باسم وزارة الزراعة، حميد النايف، فإن هناك سعيا رسميا لرفع غلة الدونم إلى المستوى العالمي، أي 1200 كيلوغرام، بدلا من 400 كيلوغرام حاليا، وأن الحكومة رفعت سعر القمح المُشتَرى من المزارعين بهدف تشجيعِ التوسع في زراعة المحصول.

ويمكن أيضا زيادة مساحة الأراضي المزروعة بالقمح، فيما لو استخدمت الطرق الحديثة في الإرواء، كالإرواء برش المياه من فوق (أو ما يسمى بالتنقيط)، وكذلك يمكن توفير المزيد من المياه، إن قررت وزارة الزراعة تقليص المساحات المتاحة لزراعة الرز، الذي يستهلك كمياتٍ كبيرةً من المياه، والذي يمكن شراؤه من الدول الأخرى بأسعار أدنى. ويعاني العراق شح المياه في السنوات الأخيرة بسبب قيام إيران بتغيير مسارات الأنهر النابعة من أراضيها وحرفها إلى الداخل الإيراني، والذي تسبب في قطع كل المياه الواصلة إلى العراق من إيران، التي تقدر بثلاثين مليار متر مكعب سنويا، بينما أنشأت تركيا وسوريا سدودا على نهري دجلة والفرات تسببت في تقليص كمية المياه الداخلة إلى العراق بنسب كبيرة، بلغت 60 بالمئة في نهر الفرات و40 بالمئة في نهر دجلة حسب التقديرات المطلعة.

وتأتي الجزائر في المرتبة الثالثة عربيا، إذ يتجاوز انتاجها 3 ملايين طُن سنويا، إلا أنه تدنّى عام 2021 إلى مليوني طُن، ويتوقع وزير الفلاحة الجزائري، عبد الحفيظ هني، أن إنتاج القمح لهذا العام سوف يتجاوز 3 ملايين طُن، لكنه سيبقى دون مستوى الحاجة المحلية، إذ استوردت الجزائر 9.2 مليون طُن عام 2021 حسب المصادر الرسمية. ثم تأتي سوريا رابعا، (2.8 مليون طُن)، والمغرب خامسا، (2.5 مليون طُن)، وتونس، (مليون طُن)، والسودان، (750 ألف طُن)، والمملكة العربية السعودية (600 ألف طُن).

ولا تصدِّر الدول العربية أيَّ كمية من القمح، بل هي مستورِدة له، إذ لا يكفي إنتاجها لتغطية الحاجة المحلية، ولكن بإمكانها أن ترفع إنتاجها خصوصا مع ارتفاع أسعار القمح العالمية. ومن المستغرب حقا تدني إنتاج القمح في السودان التي لديها مساحات شاسعة من الأراضي الخصبة، وتتوفر فيها مياه الري والأمطار بغزارة.

وتنتج روسيا 86 مليون طُن من القمح سنويا، بينما تنتج أوكرانيا 25 مليون طُن، وهي كمية متواضعة مقارنة بالإنتاج العالمي الكلي للقمح، فالصين مثلا تنتج (134 مليون طُن) والهند (108 ملايين طُن)، لكن أهمية القمح الأوكراني والروسي تأتي من أن معظمه يصدر إلى الخارج لأنه فائض عن حاجة السكان (145 مليون في روسيا و45 مليون في أوكرانيا).

وإن كانت أوكرانيا محاصرة حاليا، ولا تستطيع أن تصدِّر محاصيلها الزراعية، فإن صادرات القمح الروسية لن تتأثر بالحرب، بل سيكون المزيد منها متوفرا لدول العالم التي لم تقاطعها.

وتنتج تركيا 20.5 مليون طُن من القمح سنويا، وهذا الرقم قابل للزيادة إذا ما قررت التوسع في إنتاج القمح للتعويض عن النقص الحاصل في الأسواق العالمية، وهي قادرة على ذلك، إذ تتمتع بأراضٍ خصبة شاسعة ومياه وفيرة، خصوصا بعد إنشائها العديد من السدود على نهري دجلة والفرات.

تبدو أزمة الغذاء العالمية الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية مُبالَغا فيها، رغم أن من الخطأ التقليل من خطورة احتمالاتها المستقبلية، لأسباب أخرى، منها تقلص المياه المتوفرة للزراعة في العديد من بلدان العالم، ومنها العراق ومصر والسودان، بسبب التصحر والتغير المناخي. وإن كانت مصر تستغل الأراضي المتاحة للزراعة، وأنها تعتزم زراعة القمح في المساحات المخصصة للبرسيم، من أجل تحقيق "الاكتفاء الذاتي الآمن"، فإن العراق والسودان يمكنهما أن يزيدا من انتاج القمح بسهولة، إن أجريا بعض التعديلات على طرق الإرواء الحالية واستثمرا أكثر في قطاع الزراعة، ولا ننسى أن العراق كان يصدر القمح سابقا.

لابد من الاعتراف بأن هناك هدرا كبيرا في الغذاء في العالم العربي، خصوصا في الخبز والرز، بسبب التقاليد العربية المتوارَثة بتقديم الطعام بكمياتٍ تفوق المطلوب، ثم رمي المتبقي منها.

وإذا ما سعى المستهلكون للتخلي عن هذه العادة، وهذا يحتاج إلى جهودٍ ثقافية، فإن نسبة كبيرة من المواد الغذائية التي تُهدَر حاليا يمكن توفيرها. وتقدِّر بعض المصادر كلفة الغذاء المهدور في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بـ 60 مليار دولار سنويا! ويقدر البنك الدولي كلفة الغذاء المهدور عالميا بترليون دولار سنويا، وهي تكفي لإطعام الفقراء في العالم البالغ عددهم 842 مليون.

يمكن التعويض عن الخبز بمواد أخرى لها مكونات غذائية مماثلة كالبطاطا والفول، وقد تقلص استهلاك الخبز والرز في معظم البلدان الغربية، وهناك الآن صناعات غذائية متطورة تنتج أغذية متنوعة، بما فيها اللحم الاصطناعي، من فول الصويا، الذي ازدادت أهميته الغذائية والاقتصادية كثيرا في السنوات الأخيرة.

العادات الغذائية تتغير باستمرار في بلدان العالم المختلفة، ولم يعد الخبز والرز يشكلان جزءا أساسيا منها، ومن الضروري أن تتغير العادات في عالمنا العربي أيضا، خصوصا مع تزايد أعداد البشر في الكرة الأرضية نتيجة لتطور الطب وكثرة الإنجاب في البلدان التي يتدنى فيها مستوى التعليم، أو تلك التي تؤمن بالقدر، وأن كل فرد يولد في الحياة "يأتي رزقه معه"، كما تقول الحكاية الشعبية.

المساحات المتوفرة للزراعة تتقلص بسبب التغير المناخي وشح المياه في بلدان كثيرة، ومازال العالم يتغير باستمرار، فإن على المجتمعات أن تغير ثقافاتها وفقا للظروف الاقتصادية، ولا ننسى أن العادات تطورت ابتداءً نتيجةً لظروف بيئية وثقافية معينة سادت في فترة ما من مراحل التطور البشري. الكرم عند العرب، مثلا، تطور بسبب الفقر السائد والحاجة إلى التنقل المستمر لمسافات طويلة، والحاجة للتوقف في الطريق لعدة أيام، لذلك تطورت عادة إكرام الضيف لأن الجميع يحتاجها. لكن الظروف تغيرت، ومعظم الناس لم يعودوا بحاجة إلى المساعدة بعد أن ازدادت الثروة وصار التنقل سهلا، وبدأت الحكومات تقدم المساعدات للفقراء، وهذه التطورات سوف تؤدي إلى تغيير العادات. إضفاء القدسية على العادات والتقاليد يخلق مصاعب للمجتمعات العصرية دون مبرر.