الكتاب، في مفهوم الأقلية، ليس مجرد حجّة في حقّ الهويّة، ولكنه لا يلبث أن ينتهي به المطاف لاكتساب ماهيّة الملاذ.

فالحصون التي يستجير بها سليل الأقليّة، في مسيرة الدفاع عن النفس، حصيلة سخيّة، علّ الفرار إلى العزلة أحد أهم أركان هذا الناموس في حملة التقيّة؛ لأن الاغتراب عن واقعٍ محكوم بمشيئة الأغلبيّة، أيضاً تميمة. ففي البداية تلجأ الأقليّة إلى الإنكماش حول نفسها، كما ينكمش قطيع الأنعام حول نفسه، عندما يشتمّ رائحة الذئاب استجابةً لنداء الغريزة، التي تُلهم كم  حِمّى الجماعة قوّة. ولكن حميميّة اللمّة إذا كانت عزاءً، بيد أن القبيلة سوف تكتشف هشاشة هذا التدبير عاجلاً، فتستجير بالهجرة، كما حدث مع أمازيغ البريّة، الذين اختاروا الإنقطاع في رحاب أشرس صحاري العالم، طلباً للنجاة بالهوية، فإذا بهدهدة هذا الجنين يتحوّل، مع تدفّق الزمن، منعطفاً، ما لبث أن استقام في هوسٍ آخر هو: إدمان الحرية.

عنصر التماهي بين الهوية، في بُعد الأقليّة، وبين إدمان الحرية، الناجم عن اعتناق الهجرة ديناً، ضاعف التحدّي واستنزل في تجربة القوم أوزاراً أخرى، استوجبت دفع قرابين أخرى في ملحمة صون أحجية وجودية كالهويّة. ولكن إدمان أفيون الحرية، هو ما لا يعترف باللمّة، حتّى لو كانت لحماية كنز إسمه هويّة أقليّة، بما اللمّة ترجمان للعلاقة: العلاقة التي فرّ  القوم من رحابها، لكي يحقّقوا النجاة لما سوقوه في دنياهم قدس أقداسٍ، وهو الهوية: الهوية في بُعد الأقليّة. ففي الصحراء حسب، لا وجود لهيمنة أغلبيّة. في الصحراء فقط تستطيع الأقليّة أن تنعم بالأمان: الأمان من شبح الأغلبيّة، وممارسة طقوسها التقليدية، بدايةً باللغة، مروراً بالعادات الاجتماعية، ونهايةً بالشعائر الدينية. أي أن هذا النموذج لا يطلب النجاة بالنفس وحدها، ولكنه، بالفرار، يهفو لإنقاذ ثرواته الروحيّة، ليقينه بأن تجريده من هذه الثروات، بليّة لا تختلف عن تجريده من حرف وجوده، لأنها رهان هذا الوجود.

تحقّق العزلة للقوم خلاصاً، ولكن طبيعة الفردوس البرّي، الصحراوي تحديداً، تستدعي تحديد موقفٍ من اللمّة، من إلتحام الإنسان، واحتكاكه بأخيه الإنسان، بوحيٍ من إغواء اللامحدود المكاني. ومن الطبيعي أن يتطلّع لكسر القيد، بالاستسلام للمنطق الذي أوجد الوصيّة التي صارت تالياً حجّةً، وهي: «باعدوا بين بيوتكم، وقاربوا بين قلوبكم» تلبيةً لنداء الحرية، التي لا يجود بها واقع أرضي، كما يجود بها الواقع الصحراوي. ففي هذا الفراغ البيئي الموجع، تكفّ الأقليّة على أن تكون أقليّة،، لتصبح، بالإنتشار، أغلبيّة. الحرية تنفخ في روح الأقليّة سطوةً، لا تلبث أن تكتسب بفضلها على الواقع سلطاناً؛ لأن قسوة الصحراء، هي ما ينفي عن الواقع سلطة الأغلبيات. ولكن هل بوسع التائه أن يهنأ بالاً بدون استنطاق مخزون الذاكرة؟ فالحرية سعادة حقّاً، ولكنها السعادة التي لا تكتمل بدون استجواب مستودع الذاكرة، لأن رأسمال الأقليّة كهويّة إنّما يسكن محصول الأزمنة الغابرة. والاحتكام إلى الوصايا، التي توارثتها الأجيال خلفاً عن سلف، هو قدس الأقداس الذي تتراطن به الألسن لاستدعاء الفراديس الضائعة.

في هذه المعادلة، لا وجود لملاذٍ سوى الكتاب.

ولكن هل بوسع مضغة اللسان أن تغدو مادّة لقرطاس؟ هل بوسع منطق تلوكه عضلة كاللسان، أن يصلح حجّةً تتداولها صحائف ملفّقة في أسفار؟ كيف يعترف واقع ملفّق من طينة سَفرٍ، كواقع الصحراء، بصحائف تلفّق أسفاراً من كواغد، أو من جلود، أو من ألواح شجر، أو من صلد حجر؟ فمنذ خذلت الذاكرة سليل اليابسة بفعل وباء النسيان، أضحت الإستعانة بالحرف، في تخزين الوصايا، حرفة دهاة.

فما اعتدنا أن نسمّيه كتاباً، هو القشّة التي تتشبّث بها أية أقليّة، لكي تُجيرها من بطش جلّادٍ إسمه الأغلبيّة، سيّما إذا كانت الأغلبيّة نفسها تعتمده في وجودها أحجيةً في كفاحها ضدّ شبحٍ أعظم شأناً وهو: النسيان.

فالكتاب، إذا كان مكرّساً ليلعب دور قرون استشعار في التجربة الوجودية للأغلبية، فإنه يستعير بُعد الحصن، الذي تنتدبه الأقليّة، ليكون لها تميمة هويّة. ولكن ما لا يعوّل عليه، في التجربة، هو عضلة كاللسان، كذاكرة للإحتفاط بميراث السلف. وهو ميراثٌ من الطبيعي أن يكتسب قدسية، بسبب طبيعته كناموس، يلعب دور الدليل، في نشاط الأخلاف، الدينيّ كما الدنيوي.

ومن الطبيعي أيضاً أن يهرع الحجر من دون كل أجرام اليابسة، ليكون الصفحة الأجدر باستقبال الكلمة الأولى في أبجديّة المخطوط، فاكتساب الكتاب في واقع الأقليّة هو ما يهب الأقليّة الشهادة لاعتلاء منزلة الأمّة، كما الأغلبيّة، بعد أن برهنت التجربة البشرية على حقيقة عدم وجود أمّة عظيمة بدون وجود كتاب مقدّس في واقع الأمّة، فلا يعود الكتاب مجرّد ترس للدفاع عن وجودٍ في حضرة الأغلبيّة، ولكن وجود الكتاب سيتحوّل حجّةً لتبوّء عتبة أعلى في سلّم المعراج: معراج الحضور في حضرة الأمم. وعلّ سيرة كتاب كـ التوراة في مسيرة أمّة العبرانيين أقوى برهان على معنى وجود الكتاب في دراما قبيل بشري، عاش مطارداً لألوف الأعوام. والسلطان الذي لعبه هذا الكتاب في تجربة هذا الشعب تتحفنا به الدلالة في إسم الكتاب.

فكلمة «توراه» تعني في لسان الأمّة الصحراوية المنسيّة «التميمة». أي أنه التعويذة التي استعان بها دهاة القبيلة المهاجرة أبداً في شدّ الأزر، للإحتفاظ بوحدة القبيلة، وديمومة الإنتماء إلى الأرومة، كسبيل وحيد لصون الهويّة من الضياع، في عالمٍ مهدّد دوماً بجلّاد الأغلبيّة.

أمازيغ الصحراء الكبرى أيضاً تسلّحوا بالكتاب، كي يضمنوا الإبقاء على الانتماء إلى هوية، أضحت بمرور الزمن أقليّة، بسبب الشغف بتلك الحرية، التي لا يجود بها سوى واقعٍ شحيحٍ ومعادٍ كالصحراء، بوصفها مسقط رأس التكوين. وعلّ الانتماء إلى مسقط رأس هذا التكوين هو الذي أوْحَى لسَدَنة الهوية الأوائل إسم «آنهي» عنواناً لكتابهم، الذي يأبون إلّا أن ينعتوه بـ«الضائع»، مترجماً في الأصل مدلولاً مفهوميّاً يعني: المبكّر! وهي الدلالة ذاتها التي اعتنقتها هذه الكلمة في اللغة اليونانية القديمة. أي أنه «الكتاب البدئيّ»، كأنّ القوم تعمّدوا أن يلقّنوه فحوى هويّتهم في بُعدها الأزليّ، لأن التبكير يعني مطلع كل فعل، مطلع كل وقت، ميلاد كل كيان، سواء أكان زماناً، أم مطلع مكان، مطلع نور، أو مطلع وجود. ولم يكن هذا الكتاب ليكتسب هويةً أسطوريةً لو لم يكن ترجمان السليل آدم في مغامرته الأرضيّة الأولى. وأحسب أن كلمة «النّهي» العربية هي في المفهوم استعارة من مستودع المبتدأ في التجربة الوجودية. فالنهي عن أمرٍ مّا، إنّما يعني التحذير من اقتراف خطيئةٍ مّا. خطيئة في حقّ الطبيعة الأولى، في حقّ الطينة الأولى، في حقّ النواميس في صيغتها كسليقة بدء. أي الحرص على عدم استباحة بكارة الجبلّة، لينشأ مفهوم الإثم من هذا العدوان الأهوج. المفهوم الدّيني في انتهاك حرمة كل ما انتمى إلى ماهيّة براءة مشفوعة ببصمة ميلادٍ من رحم عدم.