بدأت بريطانيا مفاوضات مع دول مجلس التعاون الخليجي للتوصل إلى اتفاقية تجارة حرة، على غرار ما فعلت وتفعل مع شركاء تجاريين آخرين بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي (بريكست). ومع تراجع التجارة البريطانية مع أوروبا بعد بريكست وضمن اتفاقية الخروج من أوروبا تسعى حكومة رئيس الوزراء بوريس جونسون لتوقيع اتفاقيات تجارة حرة مع الشركاء تزيد بها تجارتها الخارجية المتراجعة في العامين الأخيرين.

لا شك أن فرصة بريطانيا في التوصل إلى اتفاق مع الخليج أفضل بكثير من فرصة الاتحاد الأوروبي الذي يتفاوض مع مجلس التعاون منذ ثلاثة عقود دون نتيجة. فما زالت التجارة الأوروبية – الخليجية تسير وفق "اتفاقية تعاون" مبرمة عام 1988، ومنذ عام 1990 جرت جولات مباحثات عدة بين الاتحاد والمجلس للتوصل لاتفاقية تجرة حرة ولم يحرز أي تقدم مهم.

أما بريطانيا، وهي خارج الاتحاد الأوروبي، فقد تحررت من كثير من القيود التي تلتزم بها المفوضية الأوروبية. منها على سبيل المثال المعايير والمواصفات، وشروط السلامة والتأمين، وحتى بعض بنود حقوق الانسان وغيرها. يسهل ذلك على بريطانيا عملية التفاوض وإمكانية الوصول إلى اتفاقية تجارة حرة مع دول الخليج بسرعة.

صحيح أن اتفاقيات التجارة الحرة التي تستهدفها بريطانيا بعد بريكست، كما قوعت مع اليابان وفيتنام وتتفاوض الآن مع الهند وكندا، قد لاتعوض التجارة مع الاتحاد الأوروبي لكنها على الأقل تعادل التراجع في التجارة البريطانية – الأوروبية أو تزيد. فمنذ خرجت بريطانيا نهائيا من أوروبا مطلع العام الماضي، وإن كان باتفاق تجارة بين الجانبين إلا أن المشاكل لم تنته وتؤثر بالسلب على حجم التجارة بين الجانبين. ويضر ذلك ببريطانيا أكثر مما يضر بأوروبا إذ تبلغ التجارة مع أوروبا ما يقارب نصف التجارة البريطانية مع الخارج. بينما التجارة مع بريطانيا لا تشكل نسبة كبيرة من التجارة الأوروبية مع الخارج.

من بين أسباب الخلافات مسارعة حكومة لندن لتغيير القوانين في بريطانيا حتى تتخلص من اتساقها مع القوانين الأوروبية، من ذلك على سبيل المثال الغاء شرط استخدام الأدوية المرخصة خارج أوروبا لمدة عامين قبل ترخيصها في أوروبا والسماح باستيرادها. أو مثلا تعديل قوانين السلامة الغذائية والأمان الصحي للسماح بزراعة نباتات معدلة وراثيا. كل هذا التغيير في القوانين يعقد التجارة البريطانية مع الاتحاد الأوروبي، لكنه في الوقت نفسه يسهل لبريطانيا التوصل لاتفاقيات تجارة مع بقية العالم.

يأتي مجلس التعاون الخليجي في المرتبة الثالثة بين شركاء بريطانيا التجاريين بحجم تجارة سنوي يتجاوز أربعين مليار دولار – يتجاوز حجم تجارة دول مجلس التعاون مع الاتحاد الأوروبي المئة مليار دولار سنويا. وتستهدف بريطانيا من اتفاقية تجارة حرة مع مجلس التعاون الخليجي الغاء الرسوم والتعرفة الخليجية على السلع والخدمات البريطانية، وهي ما بين نسبة أربعة وخمسة في المئة. كما تسعى بريطانيا لاستعادة ميزة حي المال والأعمال في لندن في اجتذاب الأموال الخليجية، خاصة مع زيادة العائدات في الفترة الأخيرة مع ارتفاع أسعار الطاقة.

ومن المهم الإشارة إلى أن اتفاقية التجارة الحرة التي يتم التفاوض عليها الآن بين بريطانيا ومجلس التعاون الخليجي لا تشمل الطاقة.

تحاول بريطانيا، بتخلصها من كثير من القيود التي يلزم بها الاتحاد الأوروبي نفسه في تعاملات التجارية مع الخارج، أن تقترب من طريقة الصين في العلاقات الاقتصادية الخارجية. لكن بريطانيا، مهما فعلت لن يمكنها منافسة الصين في هذا السياق. فالبريطانيون لن يتمكنوا من فصل السياسة عن المال والأعمال تماما كما تفعل الصين بعلاقاتها ببقية الدول. ليس فقط لأن بريطانيا تعتبر نفسها "وصيف" القوة العظمى – أميركا – بل وتزايد على الولايات المتحدة أحيانا في قضايا السياسة الخارجية. بل لن البريطانيين لم يتخلصوا بعد من إرث أنهم كانوا "امبراطورية" في هذه المنطقة وغيرها وأنهم "خبراء" في شؤون الشرق الأوسط أكثر من غيرهم في الغرب.

يبقى اجمالا أن التفاوض مع البريطانيين سيكون أفضل بالنسبة لمجلس التعاون الخليجي حيث يمكن لدول الخليج التفاهم على البنود والشروط بما يخدم مصالحها أكثر من التعامل مع الاتحاد الأوروبي وقيوده. رغم أن ذلك يظل له أثر جانبي يتعلق بجودة السلع والخدمات البريطانية التي لا تطابق المواصفات والمعايير الأوروبية. لكنها قد تكون أفضل من الصينية التي لها معاييرها ومواصفاتها المختلفة.

لا يتصور أن المفاوضات ستكون خالية من التحديات تماما، خاصة وأن بريطانيا تريد اتفاقية شاملة مع دول المجلس. وكما يلاحظ في السنوات الأخيرة حين يتعلق الأمر بالسياسات المالية والاقتصادية تفضل ل دولة من دول المجلس الحفاظ على سياساتها الوطنية بما يخدم مصالحها. وبالتالي تفضل دول المجلس اتفاقيات ثنائية بينها وبين الشركاء التجاريين من خارج مجل التعاون ربما أكثر من الاتفاقيات بين المجلس وهؤلاء الشركاء. فبعض دول المجلس ترى مصلحة اقتصادية أكبر في تطبيق اجراءاتها القطرية من حيث الرسوم والتعرفة وغير ذلك من شروط وبنود التجارة.

هناك أيضا نتيجة غير مباشرة لصالح دول مجلس التعاون الخليجي فيحال سرعة التوصل لاتفاقية تجارة حرة مع بريطانيا. تلك هي أن المفوضية الأوروبية ربما تغير موقفها وتسعى لاتفاقية مماثلة مع دول المجلس وبحلول وسط تمثل تفاهمات بشأن الشروط الأوروبية التي حالت دون التوصل إلى اتفاق على مدى ثلاثة عقود.