يبدو أن لعبة التحذيرات المتبادلة الأميركية-الإيرانية بخصوص مسؤولية الطرف الآخر عن فشل التوصل إلى اتفاق نهائي لحد الآن يوقف برنامج إيران النووي مقابل رفع العقوبات الاقتصادية الأميركية ضدها، يبدو أن هذه اللعبة تقترب من نهايتها باكتشاف الطرفين حدود الرفض الذي يمكن لكل واحد منهما الذهاب إليه.
برغم أن إيران انتصرت خطابياً في هذه المواجهة بعدم مبالاتها بالتحذيرات الأميركية المتكررة منذ بداية مارس الماضي أن فسحة الوقت التي تسمح بعقد الاتفاقية النووية تتقلص سريعاً، فإنها تعي جيداً أن حيز المناورة الاستراتيجي أمامها ضيق وأن توقيع الاتفاقية يجنبها الأسوأ.
تصريح وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبداللهيان، مؤخراً في المؤتمر الصحفي الذي عقده مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في أثناء زيارة الأخير لطهران، بأن بلاده جادة للتوصل إلى اتفاق نووي يشي بإدراك رسمي إيراني بخصوص عدم تضييع الفرصة.
عبداللهيان أضاف فيما يبدو تاكيداً إيرانياً على أن الأمور ماضية نحو الحسم "لقد وصل قطار المفاوضات النووية محطات توقف صعبة، فيما تقترب هذه المفاوضات من الوصول الى النهاية.
ورغم أن تصريحات الوزير حملت اللوم الايراني المعتاد لأميركا بخصوص عدم إبدائها المرونة المطلوبة، فإنها تعكس فهماً استرتيجياً من الجمهورية الإسلامية أن خياراتها محدودة وان توقيع الاتفاق النووي من دون اشتراطات أخرى بعيدة عن الملف النووي نفسه يخدم المصالح الايرانية في وقت تعيش البلاد وضعاً صعباً.
الإبداء الحذر للمرونة الإيرانية كان واضحاً ايضاً في تقليل إيران إعلامياً من أهمية رفض واشنطن الصارم لرفع الحرس الثوري الإيراني من قائمة الإرهاب الأميركية، بعد أن كان الطلب الإيراني بهذا الصدد عائقاً جدياً على مدى أشهر أمام توقيع الاتفاقية. في إطار إبداء المرونة هذا، ذكر مستشار فريق التفاوض الإيراني في مفاوضات فيينا، محمد مرندي، أن بلاده لم تضع رفع الحرس الثوري من قائمة الإرهاب كشرط لتوقيع الاتفاقية.
برغم السقوف التفاوضية العالية المعلنة وخطاب التحدي بإزاء الولايات المتحدة ومحاولة الحصول على أقصى التنازلات الممكنة منها، ثمة وعي إيراني، غير معلن، بحدود ما هو ممكن وواقعي. مرد هذه الواقعية هو الإدراك أن ميزان القوى الاستراتيجي ليس لصالح إيران في مواجهتها مع الغرب بخصوص الملف النووي، فإحدى أهم أدوات الضغط الإيرانية لم تؤدِ في آخر المطاف إلى تنازلات أميركية حقيقية. تتعلق هذه بزيادة نسبة تخصيب اليورانيوم التي يؤدي وصولها إلى 90 بالمئة وحيازة ما يقارب 24 كيلوغراماً منه بنسبة التخصيب العالية هذه الى إمكانية صناعة قنبلة نووية.
منعَ الاتفاق النووي المبرم في 2015 إيران من التخصيب أعلى من نسبة 3.67 بالمئة وهي نسبة تسمح بتشغيل مفاعلات نووية لأغراض علمية وليست عسكرية. لكن مجلس الشورى الايراني مرر قانوناً في نهاية عام 2020 للسماح للحكومة بتخصيب اليورانيوم بنسب أعلى كوسيلة للضغط على الولايات المتحدة، لتصل نسب التخصيب الإيراني إلى 20 بالمئة وتتواصل صعوداً إلى يومنا هذا لتبلغ 90 بالمئة.
رغم القلق الأميركي المعلن من تسارع نسبة تخصيب اليورانيوم وتصاعدها وامتلاك إيران للمعرفة البشرية بكيفية القيام بهذا التخصيب مستقبلاً، فإنها لم تقدم لإيران تنازلات جدية وبقيت مصرة على عودتها للاتفاق الأصلي المبرم في 2015.
حتى لو مضت إيران أبعدَ من التخصيب بنسبة 90 بالمئة الضرورية لصناعة سلاح نووي ونجحت في صناعة قنبلة نووية، فإن امتلاكها مثل هذه القنبلة سيتحول عبئاً ضدها في آخر الأمر، لأنه سيثير قلق المنطقة بإزائها، ما يساهم في تشكيل تحالف عريض ضدها بدعم غربي، فيما ستستمر العقوبات الاقتصادية ضدها وتتسع وتكتسب شرعية دولية.
إذا كانت إيران ضد وجود قوات اميركية في المنطقة كما تعلن دائماً، فان امتلاكها سلاحاً نووياً سيعني مجيء المزيد من هذه القوات للمنطقة وبطلب من دولها حمايةً لنفسها من التهديد النووي الإيراني.
ستجد الولايات المتحدة نفسها مضطرة لردع إيران حينها وتطمين دول المنطقة كي لا تلجأ هذه الدول، في حال شعورها بالخطر، إلى تطوير برامجها النووية العسكرية الخاصة بها وصناعة أسلحتها النووية لمواجهة السلاح النووي الإيراني. أن آخر ما تحتاجه منطقة الشرق الأوسط، والخليج بالذات، هو سباق تسلح نووي يستنزف إيران اقتصادياً ويحولها إلى دولة منبوذة في المنطقة والعالم. لن تستفيد إيران من سيناريو كهذا، بل ستصبح ضحيته الأولى، بعيداً عن خطاب الفخر الوطني الشائع في الخطاب السياسي الإيراني الذي لا يهتم بالحقائق والوقائع.
ثم هناك المصاعب الاقتصادية التي تواجهها إيران على نحو متزايد بسبب العقوبات الاميركية، خصوصاً بعد تحول هذه المصاعب الى اضطرابات سياسية عبر الاحتجاجات الشعبية التي تبرز بين فترة واخرى في مدن ايرانية بسبب تردي الأوضاع المعيشية.
لكن للولايات المتحدة أسبابها الخاصة ايضاً التي تدفعها للإسراع بإبرام اتفاق نووي، الأهم بينها ارتفاع أسعار النفط بسبب شحة المعروض منه في السوق العالمية بعد اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية. تسعى الولايات المتحدة إلى إيجاد بدائل عن النفط والغاز الروسيين كي تقنع المستهلكين الأوروبيين بالتوقف تماماً عن استيرادهما من روسيا، وذلك في إطار سعيها لممارسة المزيد من الضغط الاقتصادي والمالي ضد روسيا.
من هنا تستفيد الولايات المتحدة من ضخ بضعة ملايين اضافية من النفط الايراني في السوق العالمية إذا رفعت عقوباتها الاقتصادية ضد إيران بعد توقيع الاخيرة الاتفاق النووي.
لكن لأميركا مواطن قلقها أيضا في حال توقيعها الاتفاق النووي ورفعها عقوباتها الاقتصادية على إيران، من دون تطمين حلفائها في المنطقة الذين تقلقهم كثيرا انشطة إيران المُزعزعة في بلدان المنطقة.
يخشى هؤلاء الحلفاء من تصاعد هذه الانشطة عندما تتوفر لإيران موارد مالية كبيرة بعد توقيعها الاتفاق النووي وخروجها من نظام العقوبات الأميركي.
ما تزال إدارة الرئيس بايدن عاجزة عن تقديم ما يطمئن حلفائها الإقليميين بهذا الصدد.