في ظهور له في التلفزيون العراقي في الثمانينات وهو يرتدي زياً عسكرياً شائعاً حينها اتساقاً مع حالة البلاد وهي تحارب إيران، قال صدام حسين في صيغة تساؤل خطابي "ما هو القانون؟

مجرد كلمتين نكتبها" ليلتفت إلى مرافقه، حسين كامل، ويطلب منه أن يكتب شيئاً ليغير أحد قوانين المرور كي يسمح للذين يستطيعون النظر بعين واحدة أن يقودوا سيارات أجرة. كان ذلك في إطار رده على شكوى لعسكري متقاعد جُرح في الحرب وفقد قدرة النظر بإحدى عينيه ومنعته دائرة المرور من الحصول على إجازة سوق عمومية تسمح له بالعمل كسائق لسيارة أجرة.

طبعاً، لم تعرض مؤسسات الدولة العراقية على الجمهور نتائج قرار الرئيس بالسماح لأُناس يستطيعون النظر بعين واحدة بالعمل كسواق لسيارات أُجرة، لجهة الحوادث التي يتسببون بها وعدد الضحايا ومقدار الخسائر المادية في هذه الحوادث. لم يعرف العراقيون العواقب غير المتوقعة لقرار الرئيس بتغيير القانون في خلال دقائق.

في الدول الناجحة، وخصوصاً الديموقراطية منها، تتطلب صناعة القوانين الكثير من الجهد والوقت في إطار عملية تشاورية واسعة تدخل فيها كل الأطراف التي يمسها القانون ويؤثر عليها سلباً أو ايجاباً أو من يسمونهم أصحاب المصلحة أو العلاقة (Stakeholders). فصياغة قانون جَيد لتوفير الرعاية الصحية لكبار السن مثلاً يتطلب حضور كل المعنيين به من أصحاب المصلحة حول طاولة التفاوض بشأنه. يشمل هذا العاملين الصحيين الذين يتعاطون مع كبار السن، كالأطباء والممرضين والإداريين، وشركات التأمين الصحي وكبار السن وعوائلهم، خصوصاً المرضى منهم، وجمعيات المتقاعدين، ومؤسسات الدولة ذات العلاقة، كالسلطة التشريعية والأجهزة التنفيذية التي تتعامل مع كبار السن، فضلاً عن الخبراء الذين يكتبون عن كبار السن ومشاكلهم الصحية. يمكن لهذه العملية التشاورية أن تتسع وتشمل مقارنة قوانين شبيهة في بلدان أخرى وكيفية تطبيقها والدروس التي يمكن تعلمها من تجاربها. عبر كل هذه العملية التشاورية الواسعة التي تأخذ بالاعتبار تنوع الآراء واختلافها وتحافظ على الهدف الأساسي المتعلق بالصالح العام، أي توفير رعاية صحية جيدة لكبار السن، يمكن صياغة قانون مؤثر يؤدي الغرض المطلوب، ينحسر فيه حيز العواقب غير المتوقعة بسبب الحكمة الجمَعية المتأتية من مساهمات أطراف كثيرة ومختلفة فيه.

صياغة القانون على هذا النحو التشاركي والمتأني تنتمي الى ما يُعرف بـ"السياسات العامة،" الذي أصبح أحد فروع المعرفة الأكاديمية في الجامعات الغربية، والغائب عموماً في الجامعات العربية. كتخصص أكاديمي في الجامعة، وتطبيق عملي في الحياة، تقوم "صناعة السياسات، "على افتراضين أساسيين مترابطين. الأول هو أنها ترتبط بمواجهة الحكومة لمشكلة ما وسعيها لحل هذه المشكلة (الإرهاب، او التضخم الاقتصادي، أو تصاعد العنف المنزلي الخ الخ)، إما عن طريق تشريع قانون جديد أو تعديل قديم أو بدء إجراءات معينة لا تحتاج الى سلطة التشريع، أو اتخاذ قرارات على المستوى التنفيذي، أو خليط مناسب من هذه كلها. الثاني هو أن الحكومة في صناعتها للسياسة العامة المقصودة، تتصرف نيابةً عن الشعب ومن أجله، ولذلك ينبغي إشراكه في صياغة حل مؤسساتي للمشكلة. تعني "صياغة السياسات" أن الحكومة او النخبة، لا تحتكر المعرفة والحكمة، وأنها ملزمة اخلاقياً وعملياً بالتشاور مع الشعب ليس فقط في صناعة السياسات، وإنما ايضاً في تشكيل المؤسسات التي تصنع السياسات.

تكمن القيمة الأخلاقية المهمة لـ"صناعة السياسات" في تحمل المسؤولية عن القرارات بأعلى حالات الشفافية أمام الشعب، مصدر الشرعية وصاحب المصلحة. تغيب هذه القيمة في كثير من الأنظمة السياسية في المنطقة. ارتبطت بعض أشد مشاهد الفشل العربي برفض الزعماء، صنّاع القرار، تحمل المسؤولية. في أبريل 1948، قبل شهر من اندلاع حرب فلسطين، اجتمعت شخصيات رسمية عربية رفيعة المستوى في القاهرة لمناقشة احتمالات الحرب المقبلة وكيفية إدارتها لمنع قيام دولة إسرائيل. أحد العقلاء بين المجتمعين، الأردني وصفي التل، خريج الجامعة الاميركية والضابط الذي سيصبح رئيس وزراء الأردن فيما بعد، اقترح خطة عسكرية معقولة لهزيمة الهاغاناه والجماعات العسكرية الصهيونية، التي سيتشكل منها فيما بعد الجيش الإسرائيلي: هجوم من الشمال من الجيشين السوري واللبناني تتصدره قوة مدرعة عراقية وآخر من الجنوب يتولاه الجيش المصري. هذه الخطة التي كان يخشاها كثيراً زعيم المنظمة الصهيونية، ديفيد بن غوريون، اشترطت تنسيقاً عالياً بين جيوش مختلفة عبر تشكيل قيادة عسكرية عربية موحدة بقائد واحد يدير هذه الجيوش. لكن خلاف الزعماء وتنافسهم، خصوصاً بين ملك الأردن عبد الله بن الحسين وملك مصر فاروق الأول، أطاح هذا التنسيق الضروري للنجاح. هكذا دخلت خمسة جيوش عربية الحرب، لتعمل منفردةً. الخصم الذي كانت مجاميعه المسلحة المختلفة، والمتصارعة أحياناً في السابق تعمل بتنسيق عال وتحت قيادة واحدة، استغل هذا الخطأ الفادح الذي أصبح سبباً رئيسياً في هزيمة هذه الجيوش في تلك الحرب! كانت هذه عاقبة غير متوقعة، وكارثية، نشأ معظمها بسبب الثقة المفرطة، السائدة عربياً حينها، من أن النصر مضمون وقادم وان التنافس سيدور حول من يحققه!

إحدى العواقب غير المتوقعة لصناعة القرار المفككة لأولئك الساسة في تلك الحرب هي الإطاحة بهم في انقلابات عسكرية أدارها ضباط شعروا مرارة الهزيمة في فلسطين ولاموها على حكومات بلادهم. كان الانقلاب الأول سورياً عندما أطاح حسني الزعيم في نهاية مارس 1949 حكومةَ شكري القوتلي، لتتبعه انقلابات أخرى في سورية. ثم جاء انقلاب الضباط الأحرار المصريين بزعامة محمد نجيب، ثم جمال عبد الناصر، ضد الملك فاروق وتحويل البلاد من الملكية إلى الجمهورية، وبعد ذلك انقلاب 14 يوليو 1958 في العراق الذي أطاح ايضاً الملكية العراقية واستبدلها بنظام جمهوري هيمن عليه العسكريون كما في مصر.

بالغت هذه الأنظمة العسكرية في إعلان هويتها الثورية القومية التي استبدلت عبرها الشعب كحقيقة إنسانية ومادية ملموسة لصالح قيمها الثورية، بعموميتها الحماسية واندفاعها العاطفي وزخمها الإيديولوجي الذي كان جارفاً حينها باسم انتصار التقدمية على الرجعية. تغيرت هوية النظام السياسي لكن صناعته للسياسات لم تتحسن، وبقي ضعيفاً التنبهُ للعواقب غير المتوقعة بسبب التواصل، بأشكال جديدة، للصيرورات القديمة في صناعة سياسات غاب عنها التأني والتشاور الواسع الشعبي والنخبوي المتخصص.

ظَهَرَ كلُ هذا في فشل آخر، أشد فداحة من فشل 1948 في 1967. حشدت مصر مئات الآلاف من عسكرييها على الحدود مع إسرائيل فيما كان السوريون يحشدون جنودهم ايضاً، وتبعهم الأردنيون والعراقيون، وسط تهليل عربي عام بخصوص نهاية إسرائيل الوشيكة. في مايو، قبل الحرب بأقل من شهر، أغلق الرئيس عبد الناصر مضائق تيران بوجه الملاحة الإسرائيلية خلافاً للقانون الدولي بخصوص حرية الملاحة، وأمر قواتِ حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة التي كانت تفصل بين إسرائيل ومصر بالانسحاب. كان واضحاً للإسرائيليين أن اجتياحاً مصرياً بدعم دول عربية اخرى قادم. قاموا بضربات استباقية جواً حطمت القوة الجوية المصرية ومطاراتها وطائراتها الرابضة على الأرض. لم تهتم القيادة العسكرية المصرية ببناء ملاجئ حصينة لطائراتها التي أصبحت هدفاً سهلاً للطيران الاسرائيلي. كما غاب التنسيق الفعال، مرةً اخرى، بين الجبهات المصرية والأردنية والسورية، لتستطيع إسرائيل في غضون خمسة أيام تنفيذ حملة عسكرية برية وجوية ناجحة احتلت فيها ما تبقى من فلسطين وسيطرت على أراض مصرية وسورية.

في لحظة نادرة بالاعتراف بالخطأ، ظهر عبد الناصر على التلفزيون بعد أربعة أيام على بدء الحرب ليعلن تحمله المسؤولية الشخصية عن الهزيمة المروعة ويقدم استقالته من منصبه. لكن الحماسة الثورية الشعبية لم تكن حينها تهتم بمعنى العواقب غير المتوقعة ومحاسبة المتسببين بالقرارات التي قادت إليها، فخرجت تظاهرات حاشدة في مصر ودول عربية أخرى تطالب عبد الناصر بالبقاء في سدة الحكم. تراجعَ الرئيس عن قرار الاستقالة في اليوم التالي، وضاعت فرصة ثمينة ونادرة لمراجعة الأفعال وعواقبها غير المتوقعة، والتعلم منها.