يجوز أن يقال إنّ الحرب الباردة حين انتهت، قبل ثلث قرن، انتهت بمنتصرٍ ومهزوم شأنُها شأنُ أيّ حربٍ أخرى تندلع، وتتوسّع نطاقاً، ثمّ تضع أوزارها في خاتمة المطاف. ومع أنّ الحرب الباردة، بين الدّولتين الكبيرتين في ذلك الإبّان ومعسكريْهما، لم تكن حرباً عسكريّة خيضت بأسلحة القتال، بل بأدواتٍ أخرى دون السّلاح النّاريّ (سياسيّة، اقتصاديّة، استخباريّة...).
إلاّ أنّ المواجهة بين طرفيْها أسفرت، في مطافها الأخير، عن غلبة أهداف أحدهما على أهداف الثّاني، وعن انتصار إرادته على إرادة خصمه. وذلك معنى الحرب عند مَن درسوها من المتخصّصين بوصفها صراعاً بين إرادتين (كلاوزڤيتس مثلاً).
انتصر الغرب، بقيادة الولايات المتّحدة، في هذه الحرب حين فرض بقاء نموذجه الاجتماعيّ- الاقتصاديّ والسّياسيّ نموذجاً مسيطراً، بل النّموذج الأوحد في العالم. وخرج الشّرق «الاشتراكيّ»، بقيادة الاتّحاد السّوڤييتيّ، مهزوماً لزوال نموذجه من الوجود. غير أنّه كان في كلّ معسكرٍ شريكان: الدّولة العظمى التي هي مركز المعسكر والدّول الأخرى التي هي في حكم الأطراف. والمفارقة هي في أنّ الانتصار أو الهزيمة يرتّبان على كلّ معسكر علاقة جديدة في داخله؛ بين مركزه القطب وأطرافه التي تدور حوله، وهذا بالذّات ما حدث للمعسكرين بعد نهاية الحرب أو قل، للدّقّة، لمعسكرٍ استمرّ وجوداً ولآخر انفرط كيانُه كلّيّاً.
وهكذا بينما تحرّرتِ الأطراف (الأوروبيّة الشّرقيّة) من هيمنة المركز السّوڤييتيّ، بعد زوال الحرب الباردة وانهيار كيان المركز السّوڤييتيّ، لم تتحرّر- في المقابل- الأطرافُ (الأوروبيّة الغربيّة) من هيمنة المركز الأمريكيّ، بل ظلّ الأخيرُ يُمْسك بأَزِمَّة القرار الغربيّ وسياسات دوله، ويفرض سيطرته على المنظومة الأمنيّة الغربيّة برمّتها، علماً أنّ المنظومة هذه - بلِ المعسكرُ كلُّه - ما نشآ إلاّ في مواجهة معسكرٍ ومنظومةٍ لخصمٍ سوڤييتيّ لم يعد يشكّل خطراً على أوروبا والغرب بعد انفراطه، ثمّ انكفائه إلى حدوده القوميّة الرّوسيّة. هكذا، إذن، بَدَا انتصارُ الغرب انتصاراً منقوصاً أمام القيود المضروبة على استقلاليّة القرار السّياسيّ والعسكريّ الأوروبيّ واستمرار الوصاية الأمريكيّة حتّة بعد زوال «الخطر الشّيوعيّ».
يمكن، بهذا المعنى، أن يقال إنّ الحرب الباردة انتهت إلى تحرُّر نصف أوروبا، هو نصفها الشّرقيّ فيما لم تستكمل بقيّةُ أجزاء أوروبا خروجَها من حَجْر الحرب الباردة المفروض عليها منذ نهاية أربعينيّات القرن الماضي. لقد ظلّت أوروبا، منذ نهاية الحرب العالميّة الثّانيّة، رهينة محبسيْن: روسيّ وأمريكيّ؛ لأنّها كانت السّاحة الرّئيس للمواجهة السّوڤييتيّة- الأمريكيّة، ولأنّها هي من خَسِر استقلالَه بعد دَحْر النّازيّة وانتشار الجيشين الرّوسي والأمريكيّ على كامل أراضيها. واليوم، بعد جلاء الوجود العسكريّ الرّوسيّ عن قرابة نصف القارّة، ما بَرِح موضوعُ استقلال قرار باقي دول القارّة مطروحاً.
ربّما جاز أن يقال إنّ دول غرب أوروبا تحرّرت، هي الأخرى، من التّهديد النّوويّ الذي كان مرابطاً على حدودها الشّرقيّة في شكلِ آلافٍ من الصواريخ السّوڤييتيّة، ذات الرّؤوس النّوويّة، المنصوبة. وهذا صحيح من غير جدال، بمقدار ما هو صحيح أنّ أوروبا أمكنها أن تبنيَ اتّحادها الإقليميّ (الاتّحاد الأوروبيّ) مستفيدةً من أجواء الأمن الذي ساد بعد نهاية الحرب الباردة، وأن تُوسِّع نطاقه الجغرافيّ والسّياسيّ والبشريّ بضمّ معظم دول شرق أوروبا إلى إطاره. وهذا صحيح، وأفادت منه أوروبا في بناء منظومتها الاقتصاديّة التّكامليّة والصّيرورة قوّةً اقتصاديّة كبرى هي الثّالثة في العالم، من حيث التّرتيب، بعد الولايات المتّحدة الأمريكيّة والصّين. مع ذلك، ليس لأوروبا سياسة مستقلّة في الشّؤون الدّوليّة خارج نطاق السّياسة الأمريكيّة، ولا تملك أن تربط أو تحلّ في شؤون الأمن الدّوليّ والإقليميّ إلاّ تحت مظلّة «حلف شمال الأطلسيّ»؛ التي ما تزال وحدها الحيّة من مواريث حقبة الحرب الباردة. وما ذلك إلاّ لأنّها لم تستطع أن تستفيد من نهاية التّقاطُب الدّوليّ والحرب الباردة فتستحصل لقرارها السّياسيّ (والأمنيّ) الاستقلاليّةَ التي بها ينتهي ارتهانُ مصير أوروبا لغيرها.
ليس على من خَسِر الحرب الباردة غَبَشٌ في خسارته؛ لقد خسِرها وانكفأ إلى داخله القوميّ استراتيجيّاً منذ ثلاثين عاماً. بل ها هو الخاسرُ نفسُه يتعرّض لتمدُّدٍ متواصل لمنظومة الأطلسيّ إلى حدوده المباشرة، ويُدفَع إلى سلوك سياساتٍ دفاعيّة قد تورِّطه في أوكرانيا أو في غيرها في الجوار. أمّا المنتصر (الغرب) فيكتنفه غموضٌ شديدٌ يلتبس به معنى انتصاره. وإنْ شئنا الدّقّة، فإنّ المنتصر هذا فريقٌ واحد في الغرب (الولايات المتّحدة)، أمّا الثّاني (أوروبا) فمنتصر بالمعنى الرّمزيّ والمجازيّ أو، قل، بانتصار مركزه الأمريكيّ الذي اقترن به تحت مسمًّى جامع: الغرب.