عندما يُذكر اسم مظفر النَوّاب، الشاعر والسياسي اليساري العراقي، الذي رحل قبل أيام في الشارقة بعمر 88، تقفز إلى الذهن قيمُ المثالية والزهد والثورية والتمرد والشجاعة والصراحة، التي جسدها خلال حياته الطويلة، متخليا عن بعضها تدريجيا، ومتمسكا بالبعض الآخر حتى النهاية.
أول مرة أتعرف على شعر مظفر النَوّاب بالفصحى، كانت مطلع عام 1981 عندما تلى صديقي الفلسطيني، صلاح، مقطعا من إحدى قصائده، وقبل ذلك كنت أظن أن النواب سياسي شيوعي وشاعر شعبي فحسب. لامني صلاح أنني لم أسمع بقصيدة (القدس عروس عروبتكم)، رغم أنني كنت بعمر 22، قائلا: "هذا الرجل العظيم يحفظ العرب قصائده، بينما يجهله أبناء بلده العراقيون"!
والحقيقة أن الذي جعل الأجيال اللاحقة من العراقيين تجهل النَوّاب، هو الحظر المطبق على نشاطاته وأشعاره، حتى الغنائية منها، فالأغاني الشهيرة التي كتب كلماتها، مثل "الريل وحَمَد" التي لحنها الفنان كوكب حمزة، و"ليل البنفسج" التي لحنها الفنان طالب القَرَغُلّي، وقد غنّاهما المطرب ياس خضر، كانت محظورة، وحتى عندما تبثها الإذاعة العراقية أحيانا، فإنها لا تذكر مؤلفها ولا حتى ملحِّنها، (بخصوص أغنية "الريل وحَمَد")، لأن ملحنها، كوكب حمزة، هو الآخر كان ملاحقا سياسيا.
بعدها طَفِقتُ أبحث عن مظفر فعثرت على تسجيلات لأشعاره بالعربية الفصحى، وأول قصيدة سمعتها تلقى بصوته هي قصيدته الشهيرة التي أحبها العرب (القدس عروس عروبتكم)! سمعتها وفوجئت بطابعها الحاد، والأفكار التقليدية التي تضمنتها، والتي رأيتُ، وما أزال، أنها لا تليق بمُدَّعيات مظفر التقدمية.
المعروف عن مظفر أنه سياسي شيوعي تقدمي، لكن فكرة القصيدة تقوم على استفزاز العصبيات البدوية: (أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها...)! ورغم حداثة سني ومعرفتي المحدودة في الأدب حينها، فقد صدمتني تلك القصيدة بحدتها وأفكارها المتطرفة، وكلماتها النابية (حظيرة خنزير أطهر من أطهركم) وجعلتني أهمل الاهتمام بالنَوَّاب وأدبه كليا.
قرأت واستمعت إلى قصائده الأخرى، فكانت لا تقل حدة، بل تتضمن شتائم صريحة وكلمات نابية (خوازيق على مقاييس كذا... هل أنتم بشرٌ، عربٌ أم حيوانات). لم يرُق لي شعرُه، فعزفت عنه. وفي السنوات اللاحقة سمعت رأيا من الشاعر بُلند الحيدري يعزز رأيي.
لكني وجدت متعة وصورا جميلة ومؤثرة في شعره العامي (الشعبي)، خصوصا في شعره الغنائي الذي تميز به. ورغم أن مظفر هو ابن عائلة بغدادية متمكنة، وقد سُميَّ أحد أحياء مدينة الكاظمية باسمها (محلة النَوّاب)، التي تقع فيها مدرسة الفجر التي درَّس فيها مظفر في بداية حياته، فإنه عاش مع الفقراء في الجنوب، وأتقن لهجة أهل الريف، وعبَّر عن مشاعر أهله تعبيرا لم يبلغه حتى شعراء المنطقة، بشهادة الشاعر الجنوبي الراحل عريان السيد خلف.
عاش مظفر في أرياف الجنوب، ابتداءً عندما قرر إجراء دراسة عن الأهوار العراقية عام 1959، ولاحقا عندما فر من السجن ولجأ إلى الأهوار وانتمى إلى حركة الكفاح المسلح. ويقول صديقه الشاعر حميد الخاقاني، "لا شك أن النَوّاب ارتبط بالمنطقة روحيا حتى قبل لجوئه إليها، وإلا ما كان قد أقام فيها لدراستها، ثم أتقن لهجتها وكتب فيها أجمل قصائده الغنائية".
لم يكن مظفر مجرد شاعر أو سياسي أو ثائر. كانت له هالة عجيبة عند العرب، مثقفين وعاديين، يساريين ويمينيين، وكان يُستقبَل بأعلى المستويات، ويرحب بمقدمه الناس جميعا، ويتسابقون لرؤيته والاستماع إليه. يقول الناقد عقيل عباس إن أهمية مظفر تكمن في أنه مَثَّل نقطة التقاء بين التوجهات الفكرية الرئيسية في العالم العربي ألا وهي اليسار والقومية والاسلاموية قبل تجليها الحالي، وقد تضمن شعره ما يرضي هذه الأطراف الثلاثة.
نُسجت حول مظفر قصصٌ عديدة، يقترب بعضها من الأساطير، منها مثلا قصة هروبه من سجن الحلة وكيف أنه (حفر نفقا بملعقة الطعام وتسلل عبره إلى خارج السجن)! لكن الحقيقة، كما رواها لي مطلعون، أن حفر النفق كان خطة رسمها ونفذها عدد من رفاقه، ولا ننسى أن السجون لم تكن قد بُنيت ابتداءً لتكون سجونا، بل كانت هناك مبانٍ وملاعب رياضية تحولت إلى سجون، لذلك لم يكن الهروب منها صعبا.
كانت حياة النَوّاب مليئة بالأحداث الاستثنائية، فبعد أن هرب من العراق إلى إيران بعد انقلاب 8 شباط عام 1963، وكان يعتزم الذهاب إلى روسيا عبر أذربيجان، وفق ترتيب مع الحزب الشيوعي الإيراني (تودة)، اعتقله جهاز الأمن الإيراني (سافاك) وسلمه إلى السلطات العراقية. وأثناء وجوده في منطقة (الأحواز) العربية، التي تشبه بيئة جنوب العراق الغني بالنخيل، نظم قصيدة توحي بأن هذه المنطقة عراقية: (مَن هرَّب هذي النخلة من بلدي)! وقد تكون القصيدة سبب اعتقال الإيرانيين له وتسليمه إلى العراق.
ظل مظفر طوال حياته ثائرا وزاهدا ومتمسكا بمثاليته، ينتقل من بلد لآخر، متسللا في أكثر الأحيان، لأنه مغضوب عليه في بلدان كثيرة، خصوصا بلده العراق، إذ دخل السجن مراتٍ عديدة بسبب قصائده وآرائه، ثم كللها بالانتماء إلى (حركة الكفاح المسلح) اليسارية. وقد صرح مظفر مرات عديدة، إحداها في لقاء تلفزيوني، أنه اقتيد ذات يوم في عام 1969، من المعتقل إلى لقاء مع صدام حسين، وبقي يتحدث معه قرابة الساعتين، وقد عامله باحترام، كما قال، ولم يتبرم من أجوبته الصريحة على أسئلته.
كان صدام عاتبا على الشيوعيين لعدم تعاونهم مع الحكومة، فقال له مظفر "أنتم لا تثقون بباقي الأحزاب والأحزاب لا تثق بكم". وعندما سأله، دعنا نضع الأحزاب جانبا، أنت مظفر النواب وأنا صدام حسين، هل تثق بي؟ فقال له لا، "ويمكنك أن تعيدني إلى المعتقل إن شئت"! سأله صدام إن كان معجبا بالكفاح المسلح فأجابه مظفر بالنفي، لكنه مضطر إليه.
وفي نهاية اللقاء، أشاد به صدام وقال له إن "رأسك مطلوب من (الإمبريالية)"! ونحن نريدك أن تشغل الموقع الذي يليق بك، لأن الناس يحبونك كثيرا، فرد عليه بأنه يرفض أن يتولى منصبا، وأن حب الناس له ناتج من كونه رجلا عاديا، يعيش بينهم ويتحسس معاناتهم ويعبِّر عنها، فإن تولى منصبا فإنه سيفقد هذا الحب والإعجاب.
اعتذر منه صدام وقال له نحن لا نساومك، لأننا نعرف بأنك لا تقبل المساومة، لكنه تمنى منه أن يساعد الحكومة في "سياساتها الوطنية"، وذكر منها تأميم النفط الذي تعتزم الحكومة إنجازه في المستقبل. ثم قدم له مسدسا، كهدية للذكرى! رفض مظفر قبول المسدس قائلا (لدي مسدس، فأنا من حركة الكفاح المسلح كما تعلم!)، لكنه أصر على أن يقبل هديته فقبلها مضطرا. سأله إن كانت هناك خدمة أخرى يمكنه تقديمها له، فطلب موافقته على إصدار جواز سفر له كي يغادر العراق، فلبى طلبه وأمر السلطات المعنية بإصدار جواز سفر له.
وفي نهاية اللقاء، أمر صدام بأن توصله سيارة رئاسية إلى بيته، فرفض مظفر قائلا (لا يمكنني الذهاب من المعتقل إلى بيتي بسيارة رئاسية! فهذا سيدفع الناس إلى التفكير بأنكم اشتريتموني). أُطلِق سراح مظفر، وعاد إلى بيته بسيارة أجرة، وبعدها بفترة وجيزة غادر العراق ولم يعد إليه إلا بعد أربعين عاما في زيارة خاطفة عام 2011، رفض خلالها أن يلتقي بأي من المسؤولين، وبعضهم سعى إلى لقائه دون جدوى، إذ كان معارضا عنيدا لسياساتهم وأدائهم في السلطة. الشخص الوحيد الذي لبى دعوته، هو رجل الدين حسين إسماعيل الصدر، الذي ارتبط بعلاقة قديمة معه، فكلاهما من مدينة الكاظمية.
في أواسط التسعينيات، نظمت إحدى المنظمات الثقافية العربية في بريطانيا، حفلا في مقر جمعية الجغرافيين الملكية، للاحتفاء بمظفر النواب، الذي كان يزور العاصمة البريطانية حينها، ولم يكن حضور ذلك النشاط مجانيا، بل كانت البطاقات تباع بأسعار بعضها مرتفع، خصوصا مقاعد الصفوف الأمامية والطابق الأرضي. كنت أتوق لرؤية مظفر، فاشتريت بطاقة من الدرجة الدنيا، التي يُسمح لحامليها الجلوس في الطابق العلوي الذي يطل على المسرح.
رأيت مظفر للمرة الأولى، وقد ألقى شعرا وغنى إلى جانب صديقه الفنان والأكاديمي سعدي الحديثي. كانت تلك القاعة العملاقة، بطابقيها، مليئة بالمعجبين، وقد تجاوز عدد الحاضرين عدد مقاعد القاعة السبعمئة، إذ كان هناك واقفون، ومعظمهم من غير العراقيين، المتأثرين بشعر مظفر الثوري. لم يغيِّر ذلك اللقاء بمظفر من انطباعي الأول عنه، وهو أنه رجل ثائر ومتمرد على كل ما يعتقده خطأ، وموغل في المثالية إلى أبعد الحدود. قد تكون المثالية جميلة، ومغرية، خصوصا بين الشباب، لكنها لا تتلاءم مع طبيعة الحياة التي تتطلب المرونة.
بمرور الزمن، ومع تقدمه في السن، خفَّت حدة الثورية عند مظفر، ربما أدرك أن الأنظمة الثورية، لم ترتقِ إلى المستوى المعنوي الذي كان يتوقعه منها، فانتقل للعيش في بيئة محايدة هي لبنان. لكنه بقي متمسكا بمثاليته وزهده بالمال والجاه والمنصب، وقد رفض أموالا طائلة عرضها عليه مسؤولون ومتنفذون وأثرياء، بعضهم كانوا رفاقا له في الستينيات، مثل رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي.
وفي حادثة طريفة، حدثني صديقه، الفنان سعد الجادر، إن مظفر وسعدي الحديثي حصلا على مبلغ ثلاثة آلاف دولار لكل منهما كمكافأة رمزية من المنظمة الثقافية التي نظمت حفل لندن. وفي اليوم التالي، كان مظفر يجلس في مقهى بلندن، وإذا بلص يباغته ويسرق المبلغ منه! فما كان من سعدي الحديثي إلا أن تقاسم معه مكافأته!
لم يجد مظفر في شيخوخته من يرعاه، سوى صديقه السوري، حازم، الذي بقي معه حتى يومه الأخير، ولم يحصل حتى على راتبه التقاعدي كمدرس خدم في العراق في الخمسينيات والستينيات، وكسجين سياسي أمضى سنين عديدة متنقلا بين سجون العراق، لكن المسؤولين الإسلاميين، الذين طالما تشدقوا بإعجابهم به واستشهدوا بقصائده، ثم تسابقوا للمشاركة في تشييعه، لم يوافقوا على منحه راتبه التقاعدي، متذرِّعين بحجج واهية، علما أنهم منحوا الرواتب والامتيازات لأقاربهم وأتباعهم دون وجه حق، وقبلوا بشهاداتهم المستحصلة بطرق غير أصولية، وبعضها مزورة.
لكن مظفر وجد راعيا كريما في دولة الأمارات العربية المتحدة، وبالتحديد حاكم أمارة الشارقة، الشيخ سلطان القاسمي، الذي احتضنه في سنواته الأخيرة ووفر له الرعاية الصحية حتى رحيله في العشرين من أيار/مايو الجاري، وبرحيله، انطوت صفحة الزهد والمثالية اللذين مثّلهما بحق، بل كان رمزا لهما طوال حياته.
أما الثورية، فقد أضرت به، كما أضرت أرنستو جيفارا من قبله، الثائر الشيوعي الأرجنتيني، الذي ربما كان مظفر يحاول تقليده في أعماقه، والسعي على خطاه. ولو كان جيفارا قد عاش بعمر مظفر، لربما كان قد تخلى هو الآخر عن ثوريته وتمرده. قوانين الحياة الطبيعية تتطلب المرونة، ومن يخلق لنفسه قوانين صارمة، تتعارض مع قوانين الطبيعة، فإنه سيضطر يوما لمخالفتها، وسوف يدفع الثمن غاليا.