تحتاج إيران ومحورها وأذرعها في هذه المرحلة إلى قطع حساب سياسي يكشف ما لها وما عليها. وفي ضوء ما يكشف قد تتبين أن أحوالها ليست على ما يرام، وأن معالجة هذه الأحوال ربما لا تستقيم إن هي أصرت على تكتيكها المعهود.
فالواضح أن هذا التكتيك لم ولن يقلب المعادلات لصالحها في المدى المنظور، ولا يحقق لها الفوز المبين ويعيد أمجاد "إمبراطورتيها"، ولكن يزج بها وبالدول التي تسيطر عليها لتحقيق حلم الإمبراطورية في مزيد من الخراب والتدمير.
لم يعد ينفع دولة "ولاية الفقيه" تكديس العداوات في الداخل والخارج والتلويح بقدرات نووية لن تستطيع استخدامها، لا هي ولا غيرها ممن يملكون مثلها، لأن الثمن سيكون حينذاك رأسها وليس أقل، وإلا لكنا شهدنا مفاعيل مختلفة للاستحواذ على أسلحة نووية لدى حكام أكثر جنونا وتهورا أو أكثر قوة ونفوذا.
على إيران أن تستوعب دروس التاريخ القريبة والبعيدة، فالتوسع والأطماع السياسة تصل إلى ذروتها ثم تبدأ بالتراجع، والدول الذكية، تجيد فن التراجع، وإذا ركب الغرور مفاصلها، تدمر ذاتها، وتنهار بشكل مأساوي لن تكون معروفة عواقبه، وتفتح الاحتمالات على فوضى هائلة تطيح بها.
في قطع الحساب السياسي، لا بد لإيران أن تتبين مدى رفض الشعوب لها، سواء في لبنان، أو سوريا، أو العراق، أو اليمن.
وفي اليمن على وجه التحديد، الاستنزاف لا يمكن تدارك مفاعيله، فالشعوب الجائعة لن تحركها الأيديولوجيا على المدى الطويل، لأنها هي الأخرى تذبل وتذوب كالشمعة بفعل الزمن، ولنا في الاتحاد السوفياتي خير مثال.
والقراءة الموضوعية لقطع الحساب السياسي لا بد أن تؤدي إلى تبريد الجبهات، مع أن قطع الحساب المالي لا يحمل إلا الكوارث، وتحديدا على خط تعثر مفاوضات فيينا مع الولايات المتحدة، فعلى هذه الجبهات تتكدس الخسائر الإيرانية.
ولا يكفي النكران المتواصل لتغيير هذه الحقيقة، وما يمكن أن تؤدي إليه هو انهيار حتمي.
أي رهان آخر يزيد أرباح من يتركها تتوسع وتخطئ ومن ثم تتخبط وتستفحل أخطاؤها ويراقبها ليتصرف عندما تقع، سواء كان حليفا أو عدوا.
أما لغة الثأر لمقتل العقيد في "فيلق القدس" صياد خدائي، ومن قبله قاسم سليماني، أو حتى لتاريخ الإمبراطورية الفارسية تعويضا عن هزائمها مع الفتوحات الإسلامية، فهو لا مكان له في قطع الحساب، لا سيما لدى إجراء مراجعة حساب مع قراءة للتطورات الإقليمية والدولية.
فهذه التطورات تعكس مرحلة "حمالة أوجه" محفوفة بمحاذير سياسية مع تفاقم متعاظم للأزمات المالية والحياتية والمعيشية والخدماتية، ليس فقط في الدول التي تسيطر عليها طهران، ولكن في طهران نفسها.
وهنا تجدر الملاحظة أن التحركات الشعبية في إيران احتجاجا على الوضع المعيشي غالبا ما تترافق مع الضربات التي تتلقاها إيران في إحدى هذه الدول، وغالبا من خلال الاستحقاقات الدستورية، أو بسبب الأزمات المعيشية، وتحديدا في العراق ولبنان.
وكأن أملا ما في هذه الاحتجاجات يشجع الإيرانيين المغلوب على أمرهم، والذين يتم إفقارهم جراء مصادرة خيرات بلادهم لتمويل أذرع إيران في المنطقة، على الانتفاض ورفض تحويلهم إما رهائن أو ضحايا لمشروع الولي الفقيه.
وليس تفصيلا استمرار أزمة الحكم في العراق بسبب خسارة محور إيران في الانتخابات النيابية ورفض الفائزين استمرار الهيمنة كما كانت عليه، وكذلك طرد رئيسي حكومة سابق وحالي من جنازة الشاعر مظفر النواب.
فسلطة الفساد التي شاركت إيران في مصادرة السيادة سابقا، أو التي تهادنه حاليا، أصبحت مرفوضة من الشعب العراقي غير القابل لمثل هذه التسويات، والشيعة منهم قبل السنة.
وما حصل في لبنان لا يمكن أن يستهان به، فقد رفض اللبنانيون غير المسيرين من الأحزاب، وفي طليعتها أحزاب المنظومة الحاكمة، كل ما له علاقة بالتسويات والفساد والسلاح غير الشرعي الذي يحميه حتى أن الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله طلب إلى الأكثرية النيابية التي خسرها أن تتعايش مع سلاحه وتنصرف إلى حل الأزمات الاقتصادية والمعيشية لمدة سنتين، على أمل مفاقمة هذه الأزمات لشل قدرات النواب التغييريين والرافضين هيمنة الحزب ومن خلفه إيران على القرار اللبناني.
وبعد سنتين قد تتغير موازين القوى الهابطة أسهمها لتعود وترتفع لصالح إيران المأزومة والمرفوضة هي ومن يمثلها وينطوي تحت رايتها.
بالتالي ماذا ستفعل طهران عندما تبدأ أذرعها بالتراخي تحت وطأة رفض الناس لها؟ وماذا ستفعل حيال عجزها عن إبرام اتفاق مع الولايات المتحدة يخفف الحصار عنها ويسمح لها بالانفتاح على الراغبين بالتعاون معها اقتصاديا؟ ماذا ستفعل إن هي أرغمت على التنازل حتى تحافظ على سلطتها؟
لا بد لإيران من عرض واضح لقطع حساب سياسي بغية تدارك العجز الفاضح والكلفة الهائلة لاستمرارية مشروعها.
لا بد لها من تبريد الجبهات، والتراجع خطوات وترك الشعوب تقرر مصيرها وتتخلص من نيرها، وإلا "ندِمَ البُغاةُ ولاتَ ساعةَ مَنْدَمٍ".