بين إعلان وفاة الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، الجمعة الماضي، وانتخاب الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيسا لدولة الإمارات خلفا له، لم تحتج دولة الإمارات العربية لأكثر من 24 ساعة، لكي تتحامل على حزنها بوفاة رئيسها السابق وتنصب رئيسها الجديد.

جرت العملية بسلاسة شديدة، وعاشت البلاد وضعا طبيعيا تسوده حالتين: الأولى حالة الحداد وتنكيس الأعلام التي أعلنت رسميا حزنا على فقيد نجح مع إخوته ورفاقه من حكام الإمارات في تحويل البلاد إلى قوة اقتصادية هائلة خصصت كل مواردها لتنمية شعبها وتحسين مستوى عيشه، والثانية هي إسراع مؤسسات البلاد (المجلس الأعلى للاتحاد أرفع سلطة دستورية في الإمارات العربية المتحدة) إلى انتخاب الشيخ محمد بن زايد بموجب المادة 51 من الدستور رئيسا ثالثا للدولة.

كان حدادُ البلاد اعترافا هادئا بمنجز خليفة، وكان انتخاب محمد بن زايد إيمانا راسخا بقيادته وضرورة استمرارية الدولة، وفي الحالتين سادت دولة القانون والمؤسسات، ولم يشعر الإماراتيون بأن قطيعة بصدد التشكل في بلادهم، بل إن الحياة السياسية تسير بمنطق استمرارية المشروع الذي رسمه المؤسس الشيخ زايد منذ أكثر من نصف قرن، وسار على هديه أولاده.

في هذه الحالة السياسية الرصينة، المختلفة عن الكثير من الحالات السياسية العربية، لن يكون السؤال المطروح مصوبا نحو التغيرات التي ستحصل، بل سيكون منصبا نحو كيفية تواصل مشروع الدولة، أو مدى سرعة تحقق المشروع الذي حلم به الأب المؤسس.

مهم التذكير هنا بأن الإمارات اختارت منذ نشأتها أن تنتحي مسارا مختلفا عن السياق العربي العام وقتذاك. لم تذهب نحو توجيه مواردها جلها في مشاريع العسكرة والتسلح، ولم تختر أن ترتمي في أحضان مشاريع أيديولوجية رائجة وقتذاك (في عقد السبعينات خاصة).

ونجح الشيخ زايد في أن يوفق بين بناء نهضة بلاده، وبين تثبيت انتماء الإمارات في أصولها العربية الإسلامية، وكان الفقيد زايد يردد "إن البترول العربي ليس بأغلى من الدم العربي"، لكن ذلك لم يكن يعني اللجوء إلى الصخب والشعارات الطوباوية، بل كان يعني الحث على العمل والتعليم والإنتاج.

سارت الدولة على هذا الهدي في كل المجالات، ولذلك كانت النهضة العمرانية والاقتصادية ومشاهد ناطحات السحاب في أبوظبي ودبي وغيرها من مدن البلاد، وقبلها سمو المواطن الإماراتي في تجاربه العلمية والتقنية، نتيجة طبيعية لعقود من السياسة الرصينة المركزة أساسا على تحسين مستوى عيش الإنسان بكل معانيه.

لن تتغير الإمارات بتولي محمد بن زايد مقاليد الحكم في البلاد، إذا كان التغيير يعني مبادئ التأسيس وثوابت النشأة، لكنها ستجدد بمعنى أنها ستتدبر آليات جديدة في تنفيذ تلك الأفكار الكبرى.

مبدأ استمرارية الدولة في الإمارات لن يحول بلا شك دون انتظار نقلة نوعية، على المستويين الاقتصادي والسياسي، تحصل في عهد محمد بن زايد، إذ يمتلك الرئيس الجديد إيجابية ستخدم نزوع البلاد نحو الورشات الكبرى. محمد بن زايد ليس غريبا عن الحكم وعن السلطة، إذ تقلد مهاما مباشرة تمثلت في ولاية عهد إمارة أبوظبي، فضلا عن توليه منصب رئيس المجلس التنفيذي لإمارة أبو ظبي، ومنذ أن حال المرض دون خليفة بن زايد عن مزاولة أنشطته بشكل طبيعي أمسك محمد بن زايد بدفة حكم البلاد بشكل فعلي.

لن يحتاج محمد بن زايد فترة زمنية للتعرف على خصوصيات الحكم وشعابه، بل سيباشر منذ يومه الأول مهامه على رأس البلاد وفق قناعة مفادها البناء على ما تحقق في عهد المغفور له، ومحاولة تدارك ما لم يتحقق.

والحقيقة أن هذا المعطى يمثل أحد أكبر إيجابيات الحكم الملكي الشوري الراسخ، إذ لا يمثل الحاكم الجديد قطيعة مع من سبقه في السياسات والتصورات، مثلما نشهد في الأنظمة التي تتجدد بالانتخابات والتي يمكن أن تنتج لها الديمقراطية التمثيلية نتائج شعبوية أو غوغائية أفرزتها حسابات المال والسياسة دون أن تكون لها جدارة ممارسة الحكم.

المعطى الثاني الذي يخدم مستقبل الإمارات في عهد محمد بن زايد، هو أن الأخير نجح في السنوات الأخيرة- التي مارس خلالها مهامه أو عوض خلاله المغفور له خليفة- تحويل بلاده إلى قوة اقتصادية وسياسية وتنموية مهمة في المنطقة والعالم.

نجحت الإمارات في السنوات الأخيرة في إرساء دبلوماسية حيوية بشكل لافت، إذ بنت علاقاتها الدولية على مبدأ احترام الشؤون الداخلية والندّية مع كل دول العالم وفق مبادئ واضحة تجاهر الدولة بتبنيها، ونوعت البلاد وفق هذه المقاربة في شراكاتها الدولية ولم تركن إلى سياسة الشريك الوحيد التي كانت سائدة طيلة عقود، وانفتحت بناء على ذلك على أشكال جديدة من الدبلوماسية الاقتصادية مع الصين والهند وروسيا، وانفتحت على الاستثمار في أفريقيا، ونجحت أيضا في وقف نزاعات وحروب انعدمت سبل حلها طيلة سنوات.

وفي خلفية السياسة الدبلوماسية قاربت الإمارات اقتصادها وفق قاعدة تنويع الأنشطة والموارد بما يعني الخروج من أسر الاعتماد المطلق على النفط. مهم هنا استحضار ما ورد في كلمة محمد بن زايد خلال القمة العالمية للحكومات في العام 2015 "نحن نعيش فترة لدينا فيها خير ويجب أن نستثمر كل إمكانياتنا في التعليم لأنه سيأتي وقت بعد خمسين سنة ونحن نحمل آخر برميل نفط للتصدير، وسيأتي السؤال هل سنحزن وقتها، مجيباً: إذا كان الاستثمار اليوم في مواردنا البشرية صحيحا، فأنا أراهن أننا سنحتفل بتلك اللحظة".

وفي السياق العربي توفق محمد بن زايد في تمتين العلاقات مع المملكة العربية السعودية في إطار محور الاعتدال العربي، الذي آمن مبكرا بضرورة التصدي للتطرف الديني في المنطقة وإعلاء قيم التسامح الديني، وأن ذلك لن يحصل إلا في إطار عربي خليجي واسع يقاوم الأخطار المشتركة بطريقة مشتركة.

المرور من زمن خليفة إلى عهد محمد بن زايد كان مرورا سهلا يسيرا، لاعتبارات كثيرة أولها ثقافة الاعتراف والاستمرارية التي لا تمنعُ التجديد وهيبة الدولة. شارك محمد بن زايد في تعزيز أهمية مرحلة خليفة، ويريد أن يواصل نجاحاتها، ويؤمن بأن الدولة القوية تستمر بصرف النظر عمن يحكمها، طالما رسمت لنفسها ثوابت واضحة سارت على هديها من لحظة تأسيسها. والثابت أن خليفة الذي مثل امتدادا لعصر الأب المؤسس، يعتبر اليوم أيضا مرحلة مضيئة في تاريخ البلاد انتقلت فيها من فترة الاتحاد إلى عصر الفضاء، آمن خلالها المغفور له خليفة بقيم الأب المؤسس (في الإيمان بقيم العروبة بمبادئ العروبة وقيم الاتحاد والثقافة الوطنية) وسلم المشعل إلى محمد بن زايد، الذي سيواصل المسيرة دون صخب وشعارات.

ولذلك لن يكون الحديث عن الإمارات ما بعد خليفة، أو في زمن محمد مهمًا، طالما أن البلاد تتبنى مبادئ آمن بها الشيخ زايد وأولاده، ترجمت في الواقع في المشاريع والعلاقات والسياسات.

تتغير شخوص الحكم، ولكن المبادئ مستمرة مع تحيين متواصل للأهداف والطموحات.