لم يكن الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، الذي غادرنا مبكرا هذا الأسبوع إلى العالم الآخر، رئيسا تقليديا، ولم تكن الرئاسة بالنسبة له سوى وسيلة لتقديم الخدمة للدولة وسكانها جميعا، مواطنين ومقيمين على حد سواء.
كان يعمل بصمت، دون بهرجة أو إعلان، لكن إنجازاته كانت تتحدث بصوت مرتفع، وقد عرفها مواطنوه وسكان الإمارات جميعا. المتابعون للتطور في دولة الإمارات يعرفون جيدا ماذا كانت سابقا، وكيف أصبحت اليوم، وبالتأكيد لم يحصل كل هذا التطور صدفة.
لقد خطت الإمارات خطى متسارعة نحو التميز العالمي في مجالات عديدة، اقتصادية وعمرانية وعلمية ودبلوماسية، وأصبحت دولة متماسكة ذات هوية راسخة، تحظى بثقة العالم.
وفي منطقة تعج بالمشاكل والأزمات والحروب والصراعات، تمكنت الإمارات، باتباع سياسات عقلانية تقوم على الانفتاح والتسامح والتنمية، أن تصمد بوجه الرياح العاتية وأن تنجح، وأن تتجنب الدخول في الصراعات الإقليمية والدولية، بل كانت سببا في التقارب والتفاهم والتهدئة وسلوك الطرق الدبلوماسية لحل المشاكل، على الرغم أن جزءا عزيزا من أرضها ما زال خارج السيادة الوطنية.
منذ 20 عاما وأنا أتردد على دولة الإمارات، وفي كل مرة أزورها ازداد إعجابا بحجم الإنجازات التي تحققت وبالسرعة التي تحققت فيها. وفي كل زيارة أجد صروحا عمرانية جديدة، ومعالم سياحية مذهلة، وأبراجا شاهقة تناطح السحاب، ومجمعات سكنية في البحر والبر، وفنادق متطورة وأسواقا عملاقة، ومواصلات عصرية سريعة ومريحة، وشوارع ومباني أنيقة ومثيرة للإعجاب.
وفي زيارتي الأخيرة، كان هناك معرض أكسبو 2020، الذي قصده السياح من مختلف أنحاء العالم على مدى 6 أشهر، فأصبحت به دبي حاضنة لثقافات العالم أجمع.
ما رأيته في الإمارات من تنوع بشري ووئام مجتمعي وانسجام شعبي-رسمي، ونظام متقن وجمال متميز وأناقة متناهية، لهو دليل على تضافر جهود المسؤولين والمواطنين والمقيمين لبناء الدولة على أسس الإنصاف والعدل والحرية واحترام الإنسان والعمل بالممكن حتى تحقيق الطموح.
وبينما انشَغَلَت بلدان عربية أخرى بأفكار ثورية طوباوية، لا تمت لواقعها أو ثقافتها بصلة، ورفعت شعارات مثالية براقة غير قابلة للتحقيق، وبددت ثرواتها الطبيعية على مشاريع غير منتجة وغير نافعة، بل كان بعضها يتناقض مع البيئة الجغرافية، ناهيك عن الثقافية، ركزت دولة الإمارات على إرساء دعائم اقتصاد حقيقي يقوم على التخطيط البعيد الأمد، واغتنام الفرص المتاحة للدولة والمجتمع، لتوظيفها في تشييد البنى الأساسية لاقتصاد منفتح على العالم، يكون خادما للإنسان، ملبيا حاجاته ومحققا طموحاته، الأمر الذي عزز تماسك المجتمع وإرساء ولاءً راسخا للدولة.
لم يأتِ هذا التطور المثير للإعجاب صدفة أو بضربة حظ، وإنما جاء نتيجة تخطيط علمي محكم، وعمل دؤوب مخلص قام به قادة الدولة، وعلى رأسهم مؤسسها، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وتلاه نجله الراحل الشيخ خليفة بن زايد.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال، إغفال الدور الكبير لشعب دولة الإمارات في هذا الإنجاز الكبير، فقد كان انسجامه وتفاعله مع حكومته ومؤسساته وانتظامه فيها، ودعمه إياها، وتعاونه معها دون حدود، عاملا أساسيا في هذا النجاح.
يعتبر تفاعلُ الشعب وانسجامه مع حكومته، وتعاونه مع مؤسسات الدولة وتقويمها عاملا أساسيا لتحقيق الإنجازات الكبرى في أي دولة، فلا يمكن تحقيق أي نجاح دون وجود هذا العامل، وبذلك استحق شعب الإمارات، الذي جعل كل هذه الإنجازات الكبيرة ممكنة، إعجاب العالم.
لا شك أن الجهود الكبيرة التي بذلها المؤسسون في إرساء دعائم الدولة العصرية، والنهج العلمي القويم الذي اختطوه لها، قد وضعتها على أسس صلبة غير قابلة للاهتزاز أو التعثر عند رحيل القائد، إذ يشكِّل عاملا الوضوح والاستمرارية، أهم مقومات الاستقرار ودوافع التطور والنمو الاقتصادي في أي بلد.
لقد أصبحت دولة الإمارات العربية المتحدة دولة رائدة ومؤثرة في المنطقة، وهذا يعود إلى أنها تدار عبر مؤسسات سياسية وإدارية واقتصادية وتعليمية وخدمية وعلمية فاعلة ومنظمة، منحتها القدرة على مواصلة العمل والتقدم والإبداع والتكيُّف في كل الظروف، وهذا الأمر هو الآخر لم يأتِ صدفة، وإنما كان بتخطيط استراتيجي طويل الأمد، مَكَّن الدولة أن تواصل تقدمها مهما كانت الصعاب.
لا شك أن شعب الإمارات اليوم حزين برحيل رئيس الدولة، الذي خدمه طيلة حياته، وعمل بجد ومثابرة وهدوء على تأسيس دولة القانون والأمن والنظام والرفاهية، لكنه ليس قلقا على المستقبل، بل مطمئن ومتيقن بأن نهج الشيخ خليفة ووالده الشيخ زايد، سوف يستمر ويتعزز في عهد الشيخ محمد بن زايد، المتمرس في شؤون الحكم والإدارة.
مواقف دولة الإمارات العربية المتحدة القومية والدولية معروفة، فقد كانت فاعلة في تأسيس مجلس التعاون الخليجي، وظلت تسعى إلى تعزيز تماسكه وهو في العقد الخامس من عمره، كما كانت مؤثرة وداعمة لكل القضايا العربية.
وكانت فاعلة في ترسيخ الأمن والاستقرار في المنطقة عبر محاربة التطرف والإرهاب، إذ عقدت شراكات مع دول عديدة، إقليمية وعالمية، في هذا الإطار.
استقطبت الإمارات الكفاءات البشرية من كل أنحاء العالم ومكَّنتها من الإبداع ومنحتها الحرية وأدوات النجاح وكافأتها على عملها الدؤوب وتفانيها في سبيل التطوير المتواصل. لم تتحسس مطلقا من كون هؤلاء أجانب، فبنو البشر متساوون في القيم الإنسانية، ويمكنهم أن يبدعوا في أي مكان لو توفرت لهم الظروف المواتية، من أمن واستقرار وتسامح ورخاء، وقد وفرتها لهم الإمارات، فأنجزوا وأبدعوا وطوَّروا.
واستقبلت عبر السنين ملايين العرب والأجانب من عمال ومهنين وأكاديميين وعلماء ومثقفين وصحفيين، وقد أقاموا وعملوا فيها مطمئنين، حتى أن بعضهم تخلى كليا عن محل إقامته السابق، سواء في بلده الأصلي أو في بلدان المَهاجر الأخرى، مفضلا الإقامة في الإمارات على البقاء في أوروبا وأميركا.
لقد كان العراق حاضرا في الإمارات منذ التأسيس، فلم تنسَ هذه الدولة الوفية جهود أحد وزرائها المؤسسين، وهو الدكتور عدنان مزاحم الباجة جي، الدبلوماسي القدير، ووزير خارجية العراق في الستينيات، ونجل رئيس وزراء العراق في الأربعينيات، الذي كان فاعلا في سني التأسيس الأولى.
ولم يكن الباجة جي وحيدا، فقد تبعه مئات المهنيين العراقيين من أطباء وصيادلة ومهندسين وأكاديميين ومحاسبين ومحامين ورجال أعمال وخبراء في مجالات مختلفة، ليعملوا ويستقروا في الإمارات.
وعند اشتداد الأزمة العراقية في عام 2003، تقدم المرحوم الشيخ زايد، بمبادرة لإنهاء الأزمة، ولو كان النظام العراقي السابق قد قبل بها، لما وقع احتلال العراق والكوارث التي نتجت عنه لاحقا.
لا تختلف مشاعر المقيمين في دولة الإمارات عن مواطنيها تجاه الدولة ونظامها وقادتها، ولدي أصدقاء من الطرفين يؤكدون ذلك قولا وفعلا، فما زرعه قادة الإمارات في نفوس السكان، مواطنين وعربا وأجانب، قد ولَّد انسجاما، جعل الملايين العشرة القاطنين في الإمارات، القادمين من كل بقاع المعمورة، موحَّدين في حبهم لهذا البلد وتفانيهم من أجل تقدمه ورفعته.
ستبقى الإمارات شاهدا على قدرة العرب على التطور وبناء الدولة العصرية، وهي بالتأكيد مثال يمكن دولا عربية أخرى أن تقلده إن أرادت أن تسير على طريق النجاح والتطور، وهي بالتأكيد محل غبطة الشعوب العربية.