في مقابل بعض العافية التي تدبّ في أوصال الثّقافة في العالم، نتيجة ما أنجزه الأدب الرّوائـيّ والإنتاج السّينمائيّ من فتوحات، لا يبدو ما يشبه ذلك في ميادين المعرفة والفكر؛ أعني تلك المتعلّقة بالمجتمع والإنسان والمعرفة النّظريّة.
هذا واقعٌ موضوعيّ يفرض نفسه كلّما وَضع المرء في ميزان المقارنة منتوج اليوم مع منتوج الأمس القريب. وهو يفرض نفسه على الرّغم من أنّ فرص المعرفة زادت، اليـوم، عن ذي قبل وتوفّرت مواردُها ومصادرُها أكثر، وعلى الرّغم من وفرة المنتوج الفكريّ وخاصّةً في ميادين العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة، وبلغات العالم كافّة، ويُـسْر انتقاله وتداوُله خارج حدوده.
الشّواهد على ذلك عديدة: توقّفت الأنساق الفلسفيّة الكبرى التي كان الإنتاج الفلسفيّ من داخلها مزدهراً منذ الحرب العالميّة الأولى إلى سنوات السّبعينيّات من القرن العشرين، ولم يعد في وسع الفكر الفلسفيّ المعاصر أن يقدّم نصوصاً ذاتَ تأثيرٍ هائلٍ في الوعي والتّفكير من جنس تلك التي كتبها فلاسفة كبار - مثل هنري برغسون، ومارتن هيدغر، وموريس ميرلوپونتي، ولودفيغ فتغنشتاين، وكارل پـوپـر، وهوركهايمر، وأَدورنو، وجان پـول سارتر، ولوي ألتوسير، وميشيل فـوكو، وجاك ديريدا، وجيل دولوز، ويورغن هابرماس... إلخ - وصنعتِ العقل الفلسفيّ المعاصر وتناولت أمّهات مسائل الوجود والمعرفة والسّياسة والواقع...
وتوقّـفت الأعمال النّظريّة التّأصيليّة والتّنظيريّة في علوم المجتمع والإنسان، مثل علم الاجتماع، وعلم الاجتماع السّـياسيّ، وعلم الاجتـماع الدّيـنيّ، والأنثـروبولـوجيا، وعـلم التّـاريخ، وعلم الاقتصاد، وعلم السّياسة، وعلم النّفس والتّحليل النّفسيّ، والهيرمينوطيقا، واللّسانـيّات، والسّيميائيّات ... إلخ؛ ولم نعد نقرأ أمّهات الكتب فيها - كتلك التي وضعها ماكس ڤيبر، وسيغموند فرويد، وفردينان دوسوسير، وكلود ليڤي ستروس، وهربرت ماركيوز، وحنّة أرندت وجاك لاكان، وفيرنان بروديل، وجاكوبسون، وشارل بتلهايم، وپـول سويزي، وپيير بورديو، وسمير أمين، ونيكوس پولانتزاس، وپول ريكور، ورولان بارت - وهي الأمّهات التي كانت في أساس ثورة العلوم الإنسانيّة وثورة مناهجها في الفكر الإنسانيّ المعاصر.
في مقابل توقُّـف تلك الحركة الهائلة من إنتاج النّصوص الفكريّـة الكبرى، من قِـبل أصحاب المقالات الكبرى - بلغة أبي الفتح الشّهرستانيّ - لم تعُـدِ الكتاباتِ المعاصرة في ميادين الفلسفة والمعرفة والعلوم الإنسانيّة، من حيث مرتبتُها في سُـلَّم القيمة العلميّة، أكثر من نصوصٍ جزئيّة تسبح في أفلاك تلك النّصوص المرجعيّة الكبرى. إنّها تدور في نطاق ايپيستيماتها التي دشّنتها، وتفكّر من داخل الپـاراديغمات التي فتحَتِ التّفكير في نطاقها. ولم يكد إلاّ القليلُ من فلاسفة اليوم، ومن علماء المجتمع والإنسان فيه، من يستطيع أن يفتح أفقاً معرفيّاً جديداً للتّفكير في مسائل الفلسفة والاجتماع والإنسان.
مَـردُّ هذا التّراجـع في مستوى الإنتاج الفكريّ إلى افتقار المعرفة المعاصرة إلى البُعـد الموسوعيّ الذي كان يمنحها، في ما مضى، ذلك النّفس المعرفيّ الإمبراطوريّ الذي تميّزت به، وورثته عن عهودٍ فكريّة سابقة كان فيها مألوفاً. كان على فلاسفة الأمس، منذ هيدغر حتّى فوكو، أن يقرأوا التّاريخ وعلوم الإنسان والمجتمع وأن يستدخلوا معطياتها المعرفيّة في تفكيرهم وإنتاجهم. وكان على علماء العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة، منذ فرويد وماكس ڤيبر إلى پيير بورديو، أن يقرأوا الفلسفة بنهم، أن يوطّنوا طرائق النّظر الفلسفيّ في نظام اشتغالهم العلميّ. لقد كانتِ الموسوعيّة والتّداخل بين ميادين المعرفة Interdisiplinarity من عُدّة الفكر وعتاده لا محيد عن التّسلح به ليكون الإنتاج الفكريّ مستوفياً شروطه، بل كان وحده المعيار الذي به تُقاس قيمة المنتوج المعرفيّ. وهذا ممّا لم يَعُدِ اليوم من شرائط البحث والتّفكير والتّأليف من أسفٍ شديد.
ما الذي أخذ المعرفة والفكر إلى مساقٍ لم تعُد فيه الموسوعيّةُ مطلباً، وإلى مآلٍ افتقرت فيه إلى الشّموليّة والتّركيب وبَدَت فيه متراجعةً عن معدّلها المألوف؟
إنّه التّخصُّص؛ ذلك المَـسْلك في المعرفة المنقول نقلاً من مجال العلوم الطّبيعيّة إلى مجال الفكر والعلوم الإنسانيّة. وهو، إنْ كان منهجاً في المعرفة ناجعاً في ميدان علوم الطّبيعة (طبّ/ بيولوجيا، كيمياء، فيزياء، فضاء...)، ليس ملائماً - دائماً - في العلوم الإنسانيّة وغيرَ ملائمٍ، أَلبتَّةَ، في مجال المعرفة النّظريّة. وما أغنانا عن القـول إنّ أوّل ثغـرة في المعـرفة المتولّدة من التّخصُّص - وأوّل مَـطْعَنٍ عليها بالتّالي - هي احتجازُ من يقوم بها ومَـن يتلقّاها في أطـرٍ ضيّقة ضِيقَ مساحةِ الموضوع الجزئيّ الذي يتناوله ذلك التّخصُّص. حين لا تُعْرَف صلةُ الجزئيّ المبحوثِ فيه بغيره داخل العِـلم الواحد، ثمّ بين هذا وغيره من العلوم، لا يتولّد من ذلك عِـلْمٌ دقيق وإنْ أوْحَى التّخصُّص بذلك نحواً من الإيحاء؛ إذْ مَـن يمكنه أن يبحث في المجتمع، مثلاً، إنْ لم تكن له عُـدّة معرفيّة في الاقتصاد والتّربيّة والسّياسة والقيم؟ ومن يمكنه أن يبحث في نظام التّعليم، مثلاً، إن لم يُلِمّ بعلوم التّربيّة والسّياسات العامّة وعلوم التّخطيط والاقتصاد وعلم الاجتماع وعلم النّفس التّربويّ...؟ وقِـسْ على ذلك.
لم يكن مسْلك الاقتداء بنموذج التّخصّص في علوم الطّبيعة والعلوم الدّقيقة ناجعاً للفكر وعلوم المجتمع والإنسان، لأنّه أتى عليها بالإِفقار الشّديد والمحدوديّة و، أحياناً، بالسّطحيّة. ولا يبدو أنّ ثمّة نهاية منظورة لهذا النّفق الذي دخلت فيه المعرفة، لأنّ هذا المنوال الفاشل هو الذي يُدرّس، منذ عقود، في جامعات العالم كافّة!