أثارت أفكار المرجع الشيعي العراقي محمود الصرخي الحسني، المشكِّكة ببعض عقائد الشيعة السائدة، سلسلة من الاحتجاجات العنيفة في العراق، أججها تصريح لأحد الخطباء بعدم جواز اتخاذ القبور والمراقد مساجد وأماكن للعبادة.
وقد تضمنت تلك الاحتجاجات هجمات تبدو منظمة، شنها أتباع المستائين من توجهات الصرخي، على المساجد والمراكز الدينية التابعة للمرجع وأتباعه في عموم العراق، وهدم بعض المساجد بالشفلات، ومهاجمة أتباعه واعتقال الشرطة للخطيب علي المسعودي، الذي أطلق التصريح المناهض لبناء المراقد، ونشر صورته بزي السجناء الأصفر بهدف إهانته.
كانت ردة الفعل عنيفة وغير متوقعة في بلد (ديمقراطي) كفل الدستور فيه حرية العقائد وحق التعبير عن الرأي، خصوصا وأن الخطيب المسعودي، الذي يرتدي زيا مدنيا وليس دينيا، لم يدعُ إلى هدم المساجد المقامة على القبور، ولا الأضرحة المقدسة الرئيسية، بل قال إنها مخالفة للدين، واستشهد بكتب الشيعة أنفسهم على حرمة بناء المساجد حول القبور.
لكن فكرة حرمة بناء الأضرحة والمراقد قد أصابت بالهلع جهات عديدة مستفيدة منها، خصوصا وأنها تتلقى أموالا طائلة، سواء من النذور التي يقدمها الزائرون، أو من الهدايا المادية الكبيرة التي يقدمها الأثرياء وحكومات بعض الدول. كما توظف الأضرحة آلاف الأشخاص، خصوصا الكبيرة منها، أو المنسوبة للأئمة المعروفين.
لقد اعتاد الخطباء في العراق من جميع المذاهب الإسلامية أن يشرحوا لأتباعهم المبادئ الدينية التي يؤمنون بها، وأن يبرِزوا الأدلة والبراهين من القرآن والسنة النبوية وأحاديث الأئمة والاولياء، التي تثبت صحة الأفكار والمبادئ التي تتبعها مذاهبهم، وما قاله المسعودي يدخل ضمن هذا النهج السائد، في شرح أفكار المرجع الصرخي في هذه المسألة.
هناك من الخطباء من يذهب بعيدا في شرح مواقف مذهبه من المذاهب الأخرى، فيستهين بآراء أئمتها ويسخر من أتباعها، بل ويشتم الرموز الدينية المقدسة عند الآخرين، ومع ذلك، لم يحصل في السابق أيُّ اعتداء على مسجد أو مركز ديني تابع للمستهينين أو الساخرين أو الشاتمين، باستثناء الهجمات الإرهابية للجماعات المسلحة السرية، على الرغم من الاستياء البالغ الذي يخلفه الانتقاص من العقائد والأديان والطرائق الدينية الأخرى في نفوس أتباعها.
الأمر اللافت أن المراقد انتشرت بكثرة في العراق بعد عام 2003 وبشكل يثير الريبة والشك لدى معظم الناس، بل شكَّك بأسباب انتشارها مراجع دين آخرون، غير الصرخي، مثل الشيخ محمد اليعقوبي، الذي قال في فديو متوفر على اليوتيوب "أين كان أصحاب هذه المراقد سابقا ولماذا لم نسمع بهم إلا الآن"؟
العديد من الأضرحة والمراقد المزعومة شُيِّدت في أماكن غريبة ونائية عن المدن، ونُسِبَت إلى أئمة وأولياء مزعومين، وأُطلقت عليها أسماء غريبة ومثيرة للسخرية أحيانا، مثل مرقد (السيد صاروخ) أو مرقد (العلوية خضراوات) وهكذا. وقد سخر الشيخ الشيعي، ياسر عودة، في خطبة له في مسجد في بيروت، متوفرة أيضا على اليوتيوب، من هذه الأسماء قائلا (وما هو نوع هذا الصاروخ؟ هل هو أرض-أرض مثلا)!
وكان الباحث الإسلامي، عباس شمس الدين، قد نشر بحثا حول الموضوع في كتاب تحت عنوان "المراقد المزيفة في العراق"، وبين في بحثه أن معظم هذه المراقد، خصوصا تلك التي تحمل أسماء بنات الحسن أو أبناء الكاظم، مزيفة ولا أساس لها من الصحة. ولا شك أن الهدف من بناء المراقد المزيفة ليس لوجه الله، بل هو استغفال للبسطاء ومحاولة سافرة لتضليلهم وسرقة أموالهم.
والمشكلة الأكبر منها هي إيهام الناس بأن الدعاء في المراقد والأضرحة يمكن أن يساعد على شفاء المرضى وقضاء حوائج المحتاجين في الدنيا، ومثل هذا الوهم، يجعل البسطاء يعزفون عن الذهاب إلى الأطباء للعلاج، أو السعي إلى قضاء حوائجهم عبر العمل الجاد والسعي الحثيث لتذليل المصاعب التي تواجههم في الحياة.
والأغرب من كل هذا هو صمت العديد من مراجع الدين الكبار إزاء هذه الممارسات التي تستهدف الفقراء والبسطاء، وتشيع الجهل بين المؤمنين، خصوصا وأنها توهمهم بأن الذهاب إلى هذه الأضرحة وتقديم النذور لها يعفيهم عن الذهاب إلى الأطباء لعلاج الأمراض التي يعانون منها، ما يؤدي إلى تفاقم الأمراض وإصابتهم بعلل وعاهات دائمة أو الموت. كما تدفعهم للاتكال على الدعاء وترك العمل الجاد لتحقيق طموحاتهم.
كما أن صمت الحكومة عن هذه الممارسات الضارة بالمجتمع والاقتصاد وسلطة الدولة هو أمر مريب أيضا، بل هو تقاعس واضح عن أداء أبسط واجباتها وهو حماية الضعفاء من استغلال المخادعين والدجالين الذين يجب أن يحاسبوا وفق القانون. استغلال البسطاء والمتاجرة بعواطفهم وحياتهم وأموالهم أمر يتطلب تدخل الحكومة لمنعه ومحاسبة مرتكبيه.
هناك الكثير من الخطباء الذين يسردون قصصا خيالية عن المعجزات التي اجترحها الدعاء في هذه الاضرحة، وتمر مثل هذه الادعاءات دون محاسبة أو حتى رد من الجهات المعنية، دينية كانت أم رسمية، وكأن الأمر طبيعي وغير ضار. وقد شاهد كاتب السطور قبل سنوات برنامجا تلفزيونيا بثته إحدى القنوات الفضائية العراقية يبين للمشاهدين تخصصات الأضرحة والمراقد المختلفة بشفاء الأمراض، وأن الضريح الفلاني متخصص بشفاء المرض الفلاني بينما يتخصص المرقد العلاني بتحقيق أمانٍ ورغبات أخرى.
ليس غريبا أن يذهب الناس في مختلف بلدان العالم لزيارة قبور الأقارب والعظماء والاولياء والمشاهير، ولكن دوافع مثل هذه الزيارات هو التذكر والاحترام والتبجيل للراقدين فيها، وليس طلب الرزق أو الشفاء كما يحصل في ارتياد المراقد في العراق. أتذكر أنني رأيت ذات يوم من عام 1983 مئات الأشخاص من مختلف أنحاء العالم يتقاطرون على مقبرة "هايغيت" شمالي لندن في الذكرى المئوية لرحيل المفكر كارل ماركس. كما يزور المهتمون بالأدب والتأريخ قبور الأدباء والعلماء، ويزور المسؤولون قبور القادة العظام من ذوي الإنجازات الشاخصة ويضعون أكاليل الزهور عليها في بعض المناسبات.
غير أن زائري المراقد في العراق يرتادونها للتعبد أو طلبا للشفاء أو الرزق أو الذرية، معتقدين بأنها قادرة على اجتراح المعجزات، وعندما تتحقق أمنياتهم، يعودون إليها حاملين النذور، سواء العينية منها أم المالية، وفاءً منهم للوعود التي ألزموا بها أنفسهم سابقا. وتبلغ هذه الأموال مبالغ طائلة في بعض المراقد ذات الشعبية الواسعة، التي شاعت سمعتها بين الناس بأن الله يستجيب للدعاء فيها. كما يتبرع الأثرياء وبعض الحكومات للمراقد الرئيسية بأموال طائلة. ويتصرف بهذه الأموال القائمون على المراقد وهم في العادة مؤسسوها أو أبناؤهم وأحفادهم، أو متعهدون مرتبطون برجال دين كبار.
الهجمة الأخيرة على أتباع المرجع الصرخي كانت منظمة، ويبدو أن وراءها متنفذين في الحكومة أيضا، ودوافعها متعددة، بعضها اقتصادية، وأخرى سياسية. الاقتصادية تتعلق بالتهديد الذي يتضمنه خطاب الصرخي على المستفيدين من أموال المراقد، إذ إنه يدفع من يصدقونه إلى العزوف عن زيارة المراقد، والامتناع عن تقديم النذور أو التبرعات لها. أما الأسباب السياسية فتتعلق ببعض القوى السياسية التي تتظاهر بأنها حريصة على التشيع ولا تتردد في الدفاع عنه بكل ما تستطيع من قوة.
كما تسعى هذه القوى إلى استخدام هذه القضية للترويج إلى فكرة مفادها أن الشيعة في خطر وأن هناك "مؤامرات خارجية" تحاك ضدهم، لذلك أصبح من الضروري أن تهيمن الجماعات الشيعية المسلحة على الحكومة، كي تحافظ على الوجود الشيعي!
المعروف عن الجماعة الصرخية أنها جماعة دينية صغيرة، ظهرت بعد عام 2003 بعد أن أعلن محمود الصرخي نفسه مرجعا دينيا. وتسعى الجماعة، حسب أدبياتها وتصريحات قادتها، للتقريب بين المذاهب الإسلامية وتقليص الخلافات بينها، وإيجاد مساحات مشتركة بين أتباع الأديان كافة، وهي لا تؤمن بالعنف ولا بعسكرة المجتمع، وتدعو إلى حكومة مدنية غير دينية.
وتناهض الجماعة الصرخية التوجهات الإيرانية في العراق، ويقول خطباؤها إنها توجهات تسعى لإثارة الفوضى والكراهية بين الناس.
وعلى الرغم من أن خصوم الجماعة سعوا إلى تسخيف أفكارها وتشويه مواقفها، فإن الاحتجاجات الأخيرة وهدم المساجد واعتقال أتباع الجماعة وخطبائها، قد سلط الأنظار على هذه الجماعة وافكارها، ما دفع كثيرين للبحث في مبادئها ومتبنياتها، وربما التعاطف معها، وكل هذا قدم لها خدمة لم تكن تحلم بها سابقا.
اللجوء إلى العنف وإقصاء الآخر لا ينجح دائما في تحقيق الأهداف المرجوة منه، بل يقود إلى عكس ذلك في معظم الأحيان. لو كان منافسو جماعة الصرخي قد ردوا على أفكارها بالحجة والدليل، لكانوا قد وفروا على أنفسهم وعلى البلد كل هذا العنف والخسائر والفوضى، وساهموا في نشر أفكارهم، وربما تحجيم أفكار منافسيهم، إن كانوا حقا يمتلكون الدليل والحجج المقنعة.
لكن التصرفات البدائية، وأوهام العظمة والتفوق عند بعض المتسلطين تدفعهم إلى تغييب الآخر عبر القمع والقتل والإرهاب، بدلا من الحوار العلمي الهادئ، متوهمين بأن الحوار دليل على الضعف، وأن الرد العنيف هو السبيل الأنجع لمواجهة الخصوم الضعفاء.
من الضروري في الحياة العصرية أن يبقى الجدل الديني بين رجال الدين ولا ينتقل إلى عامة الناس، الذين يجب أن ينشغلوا بتدبير أمور حياتهم، بدلا من الخوض في أمور تخصصية بحت. لكن مهنة الخطابة الدينية، وسعي كثيرين لاحترافها، لسهولتها والمنافع المادية المجزية التي تدرُّها عليهم، تدفع كثير من الخطباء لمهاجمة الآخر المختلف بهدف كسب الشهرة والأتْباع، وهذه الظاهرة أضرت كثيرا بالتماسك المجتمعي في العراق، وجهود بناء الدولة الحديثة. القوى السياسية مدعوة لأن تهتم بالشأن السياسي فقط، وعدم التدخل في الشؤون الدينية أو الفكرية، التي يجب أن تترك للمتخصصين.