حتى لو اعترفنا بالقراءة كفضول، فأي هوية تسكن هذا الفضول؟ هل هو فضول التوق لمتعة تبدّد في وجودنا سأماً هو، في واقع وجودنا دوماً، ورم خبيث، أي أنها المتعة التي تلهينا عن أنفسنا لنحتمل عبء وجودنا، أم القراءة استطلاع بطولي للوقوف على حقيقتنا، أي كي نستقصي باطننا، كي نعرف أنفسنا؟

أي أنها مسئولية أخلاقية أيضاً قبل أن تكون غنيمة معرفية، ممّا يحتّم أن نتساءل عن غاية أن نحقّق هذا الشرف الذي خلعه إله معبد دلفى على سقراط، ليصير حكراً عليه من دون كل حكماء الأزمنة، كما الحال مع اغتنام ذخيرة  «اعرف نفسك!»؟

نستطيع أن نقول أن القراءة شطحة وَجْد، وثبة استنفار، خوض لجدل، قبول للتحدّي، واعتراف لمغامرة مجهولة النتائج. أي أنها تحديد لموقف من وجود، لأن معرفة النفس فيه ليست نهاية مطاف، ولكنها تحضير لوضع حجر أساس في كيان تحرير.

ولهذا فاللهفة إلى المتن الشيّق يغدو استهتاراً بالفردوس المأمول، لأنه جنس من طُعْم لاستدراجنا إلى حيث ينتظرنا الخلاص، ضربٌ من تقنية لاجتياز عقبة المملّ، الذي لا نكتشف كم الفوز رهين مشيئة هذا المملّ ما لم نقطع شوطاً بعيداً في رحلة طلب البُعد المفقود. فما يجب أن نعترف به لأنفسنا هو أننا كلنا معنيّون بهذه الأعجوبة التي اخترعنا لها إسم: القراءة، لأن حلم الكلّ هو أن يعرف، حلم الكلّ أن يستجلي حقيقة هذا المجهول الحميم، الأقرب لنا من حبل الوريد، حتى إذا طلبناه فرّ منّا إلى أبعد من الصين! ولهذا السبب لا نتردد في أن نركب الأخطار، إذا وجدنا حيلة تنزلنا في رحابه.

فالقراءة ليست عملية تحصيل، ولكنها إعادة تأهيل. هي استعادة لفطرة، لعفوية منتهكة، ونفضٌ لركامٍ طمر ذاكرة منسيّة، بسبب اغترابها عن الحرية. فالإغتراب عن جنّات البراءة الأولى، الناتجة عن الحضور في براح einai، بوصفه استحداثاً، أو حداثة عهد، بكينونة مهد، من الطبيعي أن تسطع فيها الذاكرة، لتستعير تلك السلطة، المصاحبة لكل بكارة، على النحو الذي ورثناه في الصحف الأولى، التي لم تكن صحفاً بالمعنى الشائع إلّا مجازاً، لأنها كانت مجرد وصايا، ظلّت تجري دهوراً في صحيفة اللسان، المستعين بمارد تلك الذاكرة، التي مازالت حتى ذلك الوقت تتمتّع بعبقرية صفاء، أهّلها لأن تردّد الملاحم الكبرى عن ظهر قلب، دون الحاجة للإستعانة بألواح، أو رقوق جلود، أو صفحات كاغد، أو أوراق بردى، وإلّا لما استطاعت أن تتحوّل في لسان هوميروس، المسكون بروح الإنشاد، معزوفةً هي «الإلياذة، أو الأوديسة»، لتغدو الأنشودة متناً مرجعياً قريناً للوحي النبويّ، تماماً كما استقام هذا اللحن الفطري العاتي ناموساً في ترانيم كهنة مصر القديمة، ليشيّد هيكل الوصايا العشر، المستعارة من ذاكرة تحيا حرية: einai، الحديثة العهد بالعهد، أو كما في «جلجامش»، الملحونة بنفَس الإنسان الذي زعزعه قدر إسمه المنيّة، وهو الذي راهن على خلودٍ موعودٍ بحرف حداثة العهد بالمهد، فاستنكر المصير، وعبّر عن استنكاره بسلطان ذاكرة مازالت تحيا زمن الحرية، قبل أن تصيب القبيلة الإنسانية النكبة التي شطرت كيانها نصفين: شطر بريء، مرتحل، وآخر حضريّ، مستقرّ، لتحصد القبيلة البشرية نزيفاً فجيعاً بسبب هذا الإنقسام، نال الذاكرة سيّما في شقّها الحضري. ولم يجد إنسان الزمان ترياقاً لمداواة هذا النزيف سوى: التدوين!

وقعت الذاكرة ضحية بسبب الاغتراب عن الحرية، المعتمدة في ناموس الترحال، فاستسلمت لإغواء المكان، وعندما استمرأته كان الأوان قد فات، لأن جدران العمران كانت قد تمكّنت من إحكام الطوق حول عنق الذاكرة، لينتهي القمقم بكتم أنفاس البراءة في بُعد المهد، ليفقد إنسان الزمان عبقرية اقتناص مئات الأبيات الشعرية عند سماعها للمرة الأولى، أو ارتجال القصائد ارتجالاً، كما نترجل اليوم الكلم بحكم المنطق، لأن منطق إنسان الحرية، في الأصل، كان منطقاً شعريّاً، بفضل معجزة إسمها الحرية. هوميروس لم يكن في هذه السيرة سوى البرهان الذي عرفناه إلى وقت قريب في مواهب الشعر العربي الكلاسيكي، في العصور الوسطى، كما ألفناه في أشعار أهل الصحراء الكبرى الشفوية التي اندثرت بسبب غياب التدوين، ممّا يدفعنا لأن نتساءل: إلى أيّ مدى يستطيع التدوين  أن يضمن لنا ذلك الامتلاء في الذاكرة، الذي يستطيع أن ينقذ ما يمكن إنقاذه من صنيع ذاكرتنا المغتربة؟

ذلك أن رسالة المدوّنة هنا ليس الاحتفاظ بذخيرة الخزنة التي استودعتها الأجيال حقيقتها، لتكون ضماناً لبقاء تجربتها كي نرثها، لتلعب في وجودنا دور التلقين الذي نتلقّى بموجبه الودائع على سبيل الاستعارة، بدل أن تقوم بدور الدليل الذي يستفزّ فينا قوانا الخبيئة، لتستيقظ فينا ذاكرتنا المنسيّة، بحيث نربّي في أنفسنا حاسّة غيبيّة كالحدس، تؤهّلنا لاستعادة مجدنا الضائع، بحضورنا في تلك الحرية، التي لا وجود لها خارج العملية العقلية، بصياغة رؤيا منتجة بحرف حركة فكرية، تقودنا إلى حرم فردوسها المفقود، حيث تسكن حقيقتنا الروحية، أو ما اعتدنا أن نسمّيه  في أدبياتنا: معرفة. المعرفة كترويض على التفكير.

ولو عدنا بالذاكرة إلى الوراء لهالنا كيف طاف الأوائل الآفاق، وعبروا القارات، بأكثر الوسائل بدائية، فقط كي يحقّقوا حلم أن يعرفوا، بالمثول في رحاب أناس اعترف لهم الناس بأنهم عرفوا!

كان أثرياء العالم القديم يضحّون بكل ثرواتهم، ويعبرون البحور، لكي يطرقوا أبواب الأكاديمية في أثينا، وهم يجرجرون أبناءهم، علّ أفلاطون يسمح لهم بحضور محاضراته، لا طمعاً في أن يتلقّوا على يديه الحكمة بالمجّان، بطريق التلقين، ولكن لكي يتعلموا على يديه طريقة تؤهّلهم، لكي يعتمدوا على أنفسهم، في استكشاف ذخيرة المجهول التي تسكنهم، يقيناً منهم بعدم وجود سعادة لإنسان لم يكتشف في نفسه القرين الذي يسكنه، فلا يدركه، برغم أنه يحدسه. وهي المغامرة الجريئة التي نحاول أن نحقّقها في وجودنا الجريح بنزيف الذاكرة، في زمن تستبسل فيه تقنية المعلومة لكي تعيق محاولتنا، بتسويق المعلومة، بديلاً للمحصول المستحصل بحرف العملية العقلية النابعة منّا، السارية فينا، كل ما علينا عمله لاستظهارها في حياتنا هو الغوص المستوجب، الذي تلعب فيه القراءة دور الساعد الأيمن.

ففي تلك الأزمان كان اختراع التدوين مازال يزحف على أربع. وكانت دواوين الوقت في طور التكوين. والكتاب ضربٌ من حدث بسبب الحجم، في صيغة الألواح، أو الرقوق الملفّقة من جلد، بحيث تستهلك فحوى الكتاب الواحد حمولة مجلّدات ينوء بحملها البعير، ممّا جعل الكتاب أنفس لقية. يكفي التدوين فخراً أنه الترياق الوحيد الذي استطاع أن يدقّ المسمار في نعش أعدى أعداء الإنسان وهو: النسيان! ليغدو الكتاب بمثابة الذاكرة الإصطناعية البديلة لهبة طبيعية هشّة كذاكرة الإنسان!

لهذه العلّة ظلّ الكتاب، في واقع العالم القديم، ثروة نفيسة مرّتين: مرة بسبب ذخيرته المعرفيّة التي لا تقدّر بثمن، ومرة أخرى بسبب الغلاء الفاحش في السِّعْر، الذي يعادل ثروة حقيقية، ليس بمقدور أحد إنفاقها إلّا الأخيار، ولم يكن ليخطر ببال أحد أن يأتي اليوم الذي يصير فيه هذا الكنز في متناول كل من أوتي علماً في فكّ الحرف، ليغدو في حياة الناس أبخس سلعة، تغترب فيه الحقيقة لهذا السبب.

جاء الزمن الذي استهان فيه الناس بالكتاب، فما كان من الكتاب إلّا أن بادلهم استهانةً باستهانة، فيخسر البلهاء الرهان، لأن بعزوفهم عن قراءة الكتاب، اغتربوا عن الحقيقة التي تسكن الكتاب، فاغتربوا  بهذا الإغتراب عن أنفسهم، لا عن الكتاب.

فوجود الكتاب في المتناول بوفرة تسبّب في إضاعة القيمة في الكتاب، عملاً بالقناعة الشائعة التي تستهتر بكل متاح، تماماً كما تستهتر بالماء والهواء والتراب، لا لشيء، إلّا لأنها عطايا المجّان، وننسى أن ناموس الطبيعة هو الذي قضى أن ما لا يقدّر بثمن حقّاً هو هذا المتاح، لأن غيابه يهدّد وجود الحياة. والعزوف عن القراءة، كدليل للحضور في حضرة الحقيقة، كان جريمة تقنية الكتاب، الذي فقد سلطته كمتن مقدّس في كل الثقافات، حتى صار قريناً لخطاب الله، ليكون له الكمّ مقبرةً، بدل أن يغدو له علّة انتشار؛ فلا تكتفي تقنية الإستنساخ، بتسويق الزهد في اقتناء هذه التميمة الدهرية، ولكنها سددت لها طعنة أخرى عندما تغنّت بالمعلومة المجّانية كبديل لنعيم الخلوة التي تتيح لنا فرصة الإختلاء بأنفسنا، لاستقصاء ما بأنفسنا، كسبيل وحيد لتحرير ما بأنفسنا، وقراءة كتاب هو صلاة في حرم معبد الخلوة.

ففي هذا الحرم فقط نستطيع أن نحقق القطيعة مع نزعة التلقين التي تمارس توجيه العقلية، المسمّاة بالرأي العام، كي تسفّه الحقيقة، وتسوّق في عالمنا الأكذوبة بديلاً.

فأن نقرأ يعني أن نفكّر، أن نفكّر يعني أن نحدّد موقعنا من الوجود، وأن نحدّد موقعنا من الوجود يعني أن نحدّد موقفنا من الوجود. وتحديد الموقف يعني اعتناق روح نقدية في العلاقة مع واقع هذا الوجود.

فالتحدّي لم يكن يوماً غياب الأفعال، في فقر النشاط العمليّ، ولكن في تواضع الفحص، في الاستهانة بالتشخيص، بدليل وجود الفائض في التجريب، في ظلّ غياب استثمار الذاكرة، باعتناق دين الإستغراق. الإستغراق في التفكير، الذي كانت له القراءة دوماً فاتحة. والقراءة المتفكّرة هو ما لا تعترف به تقنية المعلومة.