يكفي إلقاء نظرة على مواقع منظمات حقوقية دولية كبرى، من قبيل هيومن راتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، لكي نلحظ وجود أركان قارة خاصة بحقوق المثليين، وننتبه إلى "صيحات فزع" تقول إن "الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منطقة قاسية للعابرين/ات جندريا".
لكن هذا الولع الحقوقي بمشاغل المثليين ليس مجرد صيحات في الفراغ الدولي، بل يمكن أن نجد صداه في تصريحات سياسية رسمية، تتبنى مكافحة الاضطهاد الذي يوجه لـ"مجتمع المثليين"، على غرار إشارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن (يوم 21 يونيو 2021) إلى أن "وزارة الخارجية الأميركية سترفع علم المثليين على وزارة الخارجية والسفارات في جميع أنحاء العالم لتعزيز التنوع والمساواة".
تزايدت في السنوات الأخيرة الضغوط الحقوقية والسياسية من أجل "افتكاك" المزيد من الحقوق للمثليين وللمتحولين جنسيا، وأفردت لهؤلاء تسميات جديدة بدأت تجد لها حضورا في الفضاء اللغوي العربي الإسلامي، من نوع "مجتمع الميم" وغيرها من التسميات، وفي عمق هذا الاهتمام أهداف سياسية وأيديولوجية عميقة، اتكأت على نوع من التضليل الفكري والحقوقي لكي تسرب تلك الأهداف على أنها مبدئية حقوقية لا تستثني أية فئة من حقوقها الكونية.
في أصل القصة أن المثلية لم تغب يومًا عن أي مجتمع في التاريخ، لكنها ظلت دائما ممارسة فردية لا يمكن اعتبارها ظاهرة جماعية ولا يمكن إفراد ممارسيها بوصف "مجتمع"، لكن التضليل الحقوقي الجديد تحيّل على مفاهيم حقوق الإنسان ووسعها إلى تلك الممارسات الفردية التي اتفقت كل مجتمعات العالم وأديانه على أنها "شاذة"، وبالتالي تحفظ ولا يمكنُ القياس عليها. كان لمثليين وجودا في تاريخ الشرق الأوسط، فمن منا لم يسمع شعر أبو نواس ومثاليته المجنونة، ومن منا لم يسخر من تصرفات أناس لهم سطوة في مجتمعاتهم القديمة لكن يرشح عنهم قصص تمنحهم صفة المثلية. تعايشت مجتمعاتنا مع المثلية على أنها موجودة، لم تنكرها لكن لم تسبغ عليها لا القدسية ولا التعقب القاسي، اعتبرتها مرض، أو أفة، أو داء سألت الله أن يبعده عن شبابها وشاباتها.
لعب التضليل الحقوقي والإعلامي الماكر الذي تمارسه جهات وشركات ومنظمات دورا مهما في توسيع الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، بما تضمنته من حقوق أساسية، لتدمج المثليين في الانشغال الحقوقي العالمي، وفي المسافة الفاصلة بين حقوق الإنسان الأساسية (الحق في حرية الحركة، والحق في حرية الفكر، والحق في حرية الدين، والحق في حرية التعبير، والحق في التجمع السلمي، والحق في تكوين الجمعيات، والحق في تقرير المصير وغيرها) وبين توسع تلك الحقوق لتشمل حقوق المثليين، يكمنُ التضليل الأيديولوجي الذي مورس طيلة عقود، وواجه صعوبات جمة حتى داخل المجتمعات الغربية، لكن تداخل الحسابات التجارية والسياسية والإعلامية فرضت تبني هذه الحقوق في الكثير من دول العالم، بل إن هذه الحقوق أصبحت معيارا للحسم السياسي في بعض الأقطار، إذ يكفي أن يصرح مرشح سياسي بأنه يعارض حقوق المثليين لكي يفقد قسما كبيرا من رصيده الانتخابي في منطقة، لكن أيضا تأييد هذه الحقوق تفقد غيره في مناطق أخرى.
على أنه من الضروري الإشارة هنا إلى وجود خيط دقيق فاصل بين رفض طرح القضية من أساسها، وبين اعتبار أن ذلك دعوة للتمييز بين فئات المجتمع، وهو الالتباس الذي سربت من خلاله الكثير من المنظمات الحقوقية أفكارها ومشاريعها، إذ أن الرافض لفكرة إفراد هذه الممارسات الفردية بجهد حقوقي تترتب عنه قوانين وإجراءات، يمكن أن يتهمَ بكونه يشجع على التمييز وعلى عدم المساواة، وما زاد في تأكيد هذا الالتباس هو ممارسات بعض التيارات الإرهابية التي أعدمت وعذبت وقتلت مثليين في بعض الأقطار الإسلامية، ما وفر لتلك المنظمات الحقوقية فرصة لكي تزيد من ضغوطها وحملاتها.
المثير في القضية أن المنظمات الحقوقية الغربية التي تتبنى قضايا المثليين وكبرى وسائل الإعلام التي حولت منابرها إلى منصات للدفاع عن تلك الفئات، أدارت ظهرها لحقوق الإنسان الأساسية التي وردت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، واستعاضت عنها بحقوق "جديدة" حولتها إلى سلاح تضرب به كل من يطعن في هذه الحقوق أو يدعو إلى التريث في اعتبارها حقوقا كونية، ولذلك نجد هذه المنظمات الحقوقية تخصص نشرات وتقارير دورية تتابع من خلالها أوضاع المثليين في كل أقطار العالم، وتحاكم الجهات والأقطار التي تعارض هذه الحقوق بهدف حماية مجتمعاتها من الانحلال ومن الحريات غير المحددة. حيث أوردت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقريرها المعنون "الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منطقة قاسية للعابرين/ات جندريا" أنه "يتعين على السلطات في مصر ولبنان وتونس تلبية احتياجات سكانها من العابرين/ات جندريا أمام القانون بالتساوي مع غيرهم/ن. يحق للأشخاص العابرين/ات جندريا الحصول على رعاية طبية واعتراف شرعي بنوعهم/ن الاجتماعي متى أرادوا/أردن دون خوف من العنف أو التمييز أو فقدان مصدر رزقهم/ن". وهو ما يعني أن سلطات تلك الأقطار العربية مطالبة، حسب هذه المنظمة، بملائمة قوانينها وتشريعاتها مع رغبات المتحولين جنسيا لحمايتهم من التمييز.
في الجانب الآخر من القضية، خلل آخر لا يقل أهمية عن التداخل التجاري والسياسي المشار إليه أعلاه، وهو ما يخص العالم العربي الإسلامي نفسه، ذلك أن ضعف العقيدة الوطنية، والمظاهر الفجة لتسييس الدين والانقسام الطائفي والعرقي، وتشتت الهويات، فضلا عن تكلس وجمود المؤثرين دينيا، كلها عوامل تضافرت لتسمح لهذه الأفكار بالتسرب إلى داخل مجتمعاتنا، وتجعل الشباب العربي المسلم ينظر للحريات من جانبها السطحي الذي لا يراعي الخصوصيات الثقافية والدينية لكل مجتمع. وفي هذا الباب زادت التيارات الإسلامية المتطرفة الطين، حين نصبت نفسها وكيلا عن الله وبديلا عن الدولة، وأصبحت تحاكم وتعدم المثليين، وهو ما وفر مادة إعلامية خصبة للمنظمات الحقوقية ملأت بها تقاريرها الصاخبة المتباكية على التمييز المسلط على المثليين.
إن المثلية ظاهرة اجتماعية قديمة قدم تاريخ الإنسان، لم يخلُ منها مجتمع بشري، لكل كل مجتمعات العالم كانت تتعامل مع مثلييها على أنهم "ظواهر" معزولة، وجب حماية المجتمع من مضارهم، مثلهم مثل كل الخارجين على التعاقد الاجتماعي. لكن ارتفاع منسوب الدعوات إلى تمتيع المثليين بحقوقهم الإنسانية، هو نتاج مصالح اقتصادية وسياسية وإعلامية متداخلة، تسربت المنظمات الحقوقية الليبرالية واليسارية بين تعقيدها لتحول الأمر من "شذوذ" إلى "قضية حقوق"، دون مراعاة لخصوصيات كل مجتمع.
ولاشك أن ارتفاع مستوى الوعي الجماعي وتحسين أداء التعليم ومكافحة الأمية والانقطاع المدرسي، وتعزيز الانتماء الوطني، وإعادة الاعتبار للتدين المتسامح غير المتعصب، ولعب المؤسسات والشخصيات الدينية أدوارها المنوطة بها، كلها عوامل يمكن أن تحمي المجتمعات العربية الإسلامية من هذه الظواهر وغيرها، لا بمقاومتها بالعنف والحصار، بل بإبراز مضارها على المجتمع من خلال نشر الأمراض النفسية والسلوكية والجسدية، وإصابة المجتمع بالتفكك والترهل والبعد عن واقعه وهويته. ويكفي أن نشير إلى أن القضية مازالت محل معارك قانونية وسياسية في الكثير من المجتمعات الغربية، لكي نتبين أنها دخيلة ومفروضة ومسقطة، وأن التضليل الذي تمارسه المنظمات الحقوقية لا يراد به توسيع حقوق الإنسان لتطال كل الفئات،ة بل إن هدفه الحقيقي هو ضرب المجتمعات في أسسها الأخلاقية والوطنية.
والمهم في مجتمعاتنا أن تكون مقاومة هذه الظاهرة في مستوييها (الممارسة نفسها ثم تحويلها إلى منظومة حقوق كونية) نابعا من نقد نفسي وقانوني وسلوكي لها، بدل الاتكاء على مقاومة كسولة تكتفي بالوصم، واستدعاء مصطلحات من قبيل قوم لوط وغير ذلك، لأن هذا النقد لم يعد يقنعُ شباب اليوم المنفتح على العالم من خلال التكنولوجيات ووسائل التواصل الاجتماعي، ولن يكون مقنعا بالنسبة له أن نقول له إن هذه الممارسات لوطية أو شاذة، بل وجب بيان أثرها ومآلاتها على تماسك المجتمع وتكامل مكوناته مثل تأثيرها الأكيد على تدمير مؤسسات الزواج والأسرة، كما يتوجب أن نبرز الدواعي الحقيقية للحملات التي تشنها المنظمات والشركات ووسائل الإعلام، فضلا على التركيز على أن هذه القضية مازالت تمثل معركة قانونية وسياسية في جل المجتمعات الغربية. وهذه القضية تتطلبُ أيضا الوعي السياسي والقانوني بأن الحقوق والحريات بمفاهيمها الغربية هي المهيمنة على ساحة الخطاب الحقوقي الدولي، وهو ما يتوجبُ على الأقطار العربية تأصيل الحقوق والحريات وفق الخصوصيات العربية الإسلامية، وهذا لا يعني الانسلاخ أو التجرد من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بل مزيد تقريب الحقوق الأساسية لتبيان سموها وتعاليها على الحقوق التي تريد المنظمات الحقوقية الدولية فرضها والترويج لها.
كما لن يكون مفيدا أيضا التحمس لما تمارسه التيارات الدينية المتطرفة ضد المثليين والمتحولين جنسيا، لان ذلك سيوفر لهؤلاء، ولمن يقف وراءهم، مزيدا من المظلومية ويحولهم إلى ما يشبه الأقليات المضطهدة، وسيسلط المزيد من الحملات على دولنا ومجتمعاتنا، بل الأجدى أن نقاوم الظاهرة بشكل علمي رصين، ونتصدى لتضليلات المنظمات الحقوقية بشكل قانوني وسياسي وحضاري.