عندما تسلم المدرب جمال بلماضي، دواليب المنتخب الجزائري، لم يكن أحسن المتفائلين يظن أنه سيبني كتيبة "مقاتلين" تستطيع مقارعة أعتى المنتخبات ومعانقة المجد في ظرف وجيز، ولم تأت في البال إعادة كتابة التاريخ عبر تحطيم الأرقام القياسية الوطنية والقارية والعالمية!
وإلى غاية مطلع أغسطس 2018؛ وهو الموعد الذي بدأ فيه بلماضي المشوار مع الخضر، وجد الرّجل أمامه فريقا منهكا تائهاً فاقداً للروح والبوصلة، بعد سنوات من الخيبات والنكسات، منذ الظهور المشرف في كأس العالم 2014 بالبرازيل وبلوغ الثمن النهائي لأول مرة في تاريخ المشاركات الجزائرية.
لقد كانت استقالة المدرب البوسني خليلوزيتش بعد العودة من بلاد السامبا، بمثابة الصدمة الكبرى، التي دخل على إثرها المنتخب الجزائري في "غيبوبة كروية" من جراء عدم الاستقرار داخل الجهاز الفني، إذ فشل 6 مدربين (باحتساب المدرب المؤقت نبيل نغيّز) خلال 4 سنوات في تجفيف الدموع وتضميد الجراح.
ورغم أن المنتخب الجزائري كان مُدججاً بالنجوم وأصحاب الكعب العالي، فإنه خرج من الباب الضيق في كأس الأمم الإفريقية 2017 في الغابون، والأنكى من ذلك فشله في التأهل إلى مونديال روسيا 2018، مما أعطى الانطباع لدى الكثيرين أن المعضلة الجزائرية ليستْ في "جودة اللاّعبين"، بقدرِ ما هي في "ذهنية المُدرب".
وفي الوقت الذي كانت تشتد فيه المناكفات بين النخب الرياضية بشأن أولوية المدرب المحلي أم الأجنبي، أثبتت "عقلية بلماضي" أن أبناء الوطن الواحد بإمكانهم صناعة المستحيلات، وتحقيق "المعجزات"، بعد أن أحدث "انتفاضة حقيقية" بين الأسماء والنجوم وفرض "الصرامة والانضباط" داخل بيت الخضر!
لقد ساهمت سياسة "القبضة الحديدية" التي انتهجها ابن مستغانم، في إذابة الحساسيات بين اللاعبين المحليين ومزدوجي الجنسية.. أبعد "شبح المحاباة" التي عرقلت تطور المنتخب لسنوات وخلق روحاً تنافسية في جو عائلي..
وبات المنتخب في عهده يسيل لعاب الكثير من اللاعبين الجزائريين الشبان في الملاعب الأوروبية من أجل رفع علم بلدهم الأم عالياً في المحافل القارية والدولية.
ببساطة فصّل "وزير السعادة" تشكيلة يغبطهُ عليها أقرب المقربين.. تصنع الفرجة وتجلب الفخر بالانتماء للأمة الجزائرية.
بفضل دهاء بلماضي عادت الجزائر إلى منصة التتويجات بعد 29 سنة من الغياب، فجلب التاج الإفريقي الثاني، لكن من خارج الديار، كما استطاع الفريق التقني الموسع له -لاعبين ورياضيين- بقيادة مجيد بوقرة إهداء الجماهير الجزائرية، كأس العرب، التي أقيمت في الدوحة نهاية عام 2021، لا بل حطم الرقم الإفريقي في سلسلة اللاهزيمة بـ 35 مباراة، معادلاً بذلك رقم العملاقين البرازيلي والإسباني، وعلى بعد مباراتين فقط من الإنجاز الإيطالي (37)، وعلى المستوى الشخصي، أدخل العرب والأفارقة لنادي المدربين الكبار، حينما رشحته الفيفا لنيل جائزتها لأفضل المدربين عام 2019.
ورغم هذه الإنجازات، كان لا بُد أن يأتي الوقت الذي يتوقف فيه عداد النجاحات، فكانت الأشهر الثلاثة الأخيرة كابوساً حقيقياً على المنتخب وعشاقه، إذْ أخفق في تحقيق هدفين متتالين هما الحفاظ على لقب كأس إفريقيا بعد خروجه خالي الوفاض من الدور الأول من النسخة الكاميرونية 2022 والحصول على ورقة التأهل لمونديال قطر أمام الأسود غير المروضة.
لكن المتابع الدقيق لمباراة السد في إياب التصفيات الإفريقية المؤهلة لكأس العالم على وجه التحديد، يدرك أن التحكيم الإفريقي كانت له اليد الطولى في إقصاء المنتخب الجزائري، رغم أن بلماضي وأشباله فعلوا المستحيل إلى آخر الأنفاس من أجل إسعاد الملايين!
وبين من يرى ضرورة رحيله، بحجة أنه لم يعد له ما يُضيفه إلى منتخب محاربي الصحراء، يعتقد آخرون أنه لا يوجد أحسن من أن يخلف الرجل نفسه، لأنه مثلما حقق النجاحات سيستفيد حتماً من الإخفاقات والعثرات، التي لم يسبق أن تجرعها مدرباً في الأدغال الإفريقية، كما أن استمرارية "مشروع مدرب وطني" بات يعرف خبايا الكرة الجزائرية، تبدو أفضل من "مغامرة مدرب بديل" قد يهدم الأساسات التي بُني عليها هذا الجيل الذهبي!
لا شك أن بقاء جمال بلماضي، المسنود بشعبية جارفة نتيجة عمله الجاد الذي بذله خلال 4 سنوات، ستحفزه على تقديم المزيد للكرة الجزائرية، لكن ذلك لن يتأتى إلا بعد تنظيف بيت الاتحادية من "صراع الأفاعي"، الذي سمم الوسط الرياضي وبات فحيحه يؤثر على أداء الجهاز الفني وكان أحد عوامل الفشل الأخير!
المطلوب اليوم وأكثرَ من أي وقت مضى تولي إدارة جديرة زمام شؤون الكرة، تكون لها استراتيجية لتطوير اللّعبة ورؤية ثاقبة، بعيدة المدى، لمواكبة المتغيرات، خصوصا في ظل ازدياد أعداد اللاعبين في المهجر الطامحين للالتحاق بالمنتخب الوطني، فضلا عن اللاعبين المحليين الذين فضلوا الاحتراف في الخارج والمتوقع وصول أعدادهم إلى 300 خلال العقد المقبل.
لذلك بات ضروريا بناء مراكز تدريب تقنية في أكثر من ولاية وبمواصفات عالمية تتوفر على إمكانات لوجستية متطورة على غرار المراكز الطبية والفنادق وصالات التدريب والاسترجاع.. وغيرها، وتسييرها وفق الأساليب الحديثة، مع تجهيز الملاعب الجديدة وتهيئة القديمة منها، مما ستكون له انعكاسات إيجابية على البطولة الوطنية والرياضة عموما..
وعلى هذا الأساس، فإن بقاء المدرب جمال بلماضي يعد مهما في هذه المرحلة المفصلية، على اعتبار أنه بات قدوة وملهما للكثيرين في مجاله من أجل بناء منظومة على أساس متين لا تزول بزوال الرجال!
نوادٍ ومنتخبات عديدة تضع بلماضي على رادارها للظفر بخدماته.. لذا لا ينبغي التفريط في هذه الجوهرة الفريدة والنادرة في عالم المستديرة الساحرة.