اختلفت المواقف التونسية والمحلية والإقليمية والدولية من قرار الرئيس التونسي قيس سعيّد بحل البرلمان يوم 30 مارس الماضي.

وكان اختلاف المواقف طبيعيا ومنتظرا، لكن الموقف التركي (من خلال تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس البرلمان مصطفى شنطوب) من الحدث التونسي تعرض لموجة رفض تونسية واسعة كانت تحيل على الصلات التي تجمع النظام التركي بحركة النهضة الإخوانية، وتشير أيضا إلى "السوابق" التركية في التدخل في شؤون دول المنطقة.

لماذا أثارت تصريحات رجب طيب أردوغان رفضا شعبيا ورسميا واسعا، على الرغم من وجود الكثير من المواقف الإقليمية والدولية الرافضة لإجراءات قيس سعيد؟

بمجرد إعلان الرئيس التونسي قيس سعيد حل البرلمان، يوم 30 مارس الماضي، بعد عقد جلسة لمجلس النواب المجمد تقرر خلالها إلغاء إجراءات سعيد الاستثنائية يوم 25 يوليو 2021، هاجم رجب طيب أردوغان تلك القرارات واعتبر أنها إساءة للديمقراطية وضربة لإرادة الشعب التونسي. لم يتأخر الرد التونسي، في قنواته الرسمية أو الشعبية، في التفاعل مع الهجوم التركي. وشدد سعيّد بوضوح "نحن أيضا لنا سيادتنا واختياراتنا بناء على الإرادة الشعبية نحن لسنا إيالة (ولاية عثمانية) ولا ننتظر فرمانا من جهة معينة"، ولم يكن خافيا على أي متابع أنه يقصد التدخل التركي في الشؤون الداخلية التونسية. جدير بالتذكير هنا أن الكثير من العواصم العالمية والإقليمية عبرت عن انشغالها من المآلات التونسية بعد حدث 25 يوليو، لكنها مع ذلك تفهمت دواعي القرار التونسي وشددت على احترامها لاستقلالية القرار التونسي، واكتفت عواصم المنطقة والعالم بالدعوة إلى إعادة المؤسسات الديمقراطية المنتخبة، بما يعنيه ذلك من الحثّ على الإسراع على تنظيم انتخابات ترسي مؤسسات ديمقراطية منتخبة. لكن المواقف التركية لم تمتلك هذا الانشغال الرصين بالحالة السياسية التونسية. وعلى ذلك أيضا كان الرد التونسي (موقف قيس سعيد أو بيان الخارجية التونسية) عنيفا وقويا وواضحا في رفض التدخلات التركية، التي لم تكن جديدة على المشهد التونسي أو على سواه من شؤون دول المنطقة.

استحضر التونسيون خلال هذه الأزمة كل مظاهر العبث التركي في خرائط المنطقة، في ليبيا أو في سوريا أو في مصر، وحتى في بعض دول الخليج العربية، وتذكروا أيضا أن كل تلك التدخلات كانت محكومة بقاعدة واضحة هي الانتصار الدائم للفروع الإخوانية في المنطقة، ولذلك عُدَّ الموقف التركي الأخير من قرارات سعيّد مجرد مفصل من مفاصل الدفاع التركي المستميت عن المصالح الإخوانية.

لم يغفر أردوغان لقيس سعيّد رفضه إتاحة الأراضي التونسية لنقل الأسلحة والعتاد والمرتزقة إلى ليبيا، في سياق الحرب التي اندلعت بين الميليشيات الإسلامية وبين الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر، وهي الحرب التي دخلتها تركيا بكل ما أوتيت من قوة لمساندة الميليشيات الإخوانية والإسلامية. أعلن سعيّد رفضه للمقترح التركي خلال الزيارة السريعة التي أداها أردوغان لتونس في ديسمبر 2019. لكن الحنق التركي على سعيّد لم ينبع فقط من هذا السبب المباشر، ذلك أن حدث 25 يوليو 2021 في تونس، مثل بالنسبة لأنقرة حدثا مدويّا خسرت خلاله حليفا قويا كانت تركيا تتكئ عليه في هندسة خططها وتحالفاتها في المنطقة، سواء في سعيها لفرض الجماعة الإخوانية في ليبيا أو في توفير الزاد البشري للخطط التركية في سوريا أو في غيرها. ولاشك أن الذاكرة العربية تحفظ جيدا كيف مثلت تونس، خلال السنوات الأولى لحكم النهضة، المعين الأول للجسر الجوي الذي تنقل عبره أنقرة جحافل الإرهابيين إلى سوريا، عبر ليبيا وتركيا. على ذلك كانت القرارات الرئاسية التي أعلنها سعيد يوم 25 يوليو بمثابة خسارة حليف وثيق تربطه بأنقرة علاقات كثيفة ومعقدة، تسودها حسابات سياسية وأيديولوجية، عززتها العلاقة الشخصية القوية التي تجمع راشد الغنوشي بأردوغان.

هذه العوامل المتداخلة جعلت الموقف التركي من قرار سعيد بحل البرلمان، اصطفافا أيديولوجيا مشوبا بالمصالح المتبادلة بينه وبين حركة النهضة. والقرينة على أن الموقف التركي من الراهن التونسي هو موقف منحاز وأيديولوجي، هو أن أنقرة لم تبد أي موقف، ولو ناقد، لما عرفته تونس من أزمات خلال عشرية حكم النهضة (من انتخابات 23 أكتوبر 2011 حتى تجميد البرلمان يوم 25 يوليو 2021) رغم ما عاشته البلاد من خراب اقتصادي وعمليات إرهابية وأزمات صحية وانسداد سياسي، لأن ما كان يعني أنقرة وقتها هو ديمومة بقاء النهضة في الحكم، أيا كانت استتباعات ذلك الحكم، ولو كان على حساب أمن التونسيين ومعيشتهم وصحتهم.

والمهم في القضية أن الكثير من الأحزاب والحساسيات التونسية نددت بالتدخل التركي في الشؤون الداخلية التونسية، ولم يكن الرد الرسمي التونسي على تصريحات أردوغان وحيدا في هذا الباب، بل إن الكثير من الأطراف السياسية ذهبت أبعد من الموقف الدبلوماسي التونسي، واعتبرت أن أردوغان ليس مخولا بالحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في وقت تعج فيه السجون التركية بالصحفيين والمدونين والبرلمانيين والمعارضين وقادة الأحزاب السياسية، على خلفية محاولة الانقلاب في العام 2016.

الثابت أن أردوغان لا يعترف بالديمقراطية إلا حين تتلازم مع وجوده في السلطة، ودون ذلك يكفر بكلّ معانيها وقيمها، ولعله يوسع اختصار للديمقراطية في مواقفه مما يجري خارج المجال التركي، إذ أن الديمقراطية في تونس تعني بالنسبة له ضرورة وجود حركة النهضة في الحكم، وأي إبعاد للنهضة من الحكم يصبح، في العرف الإخواني التركي، "تشويها للديمقراطية". في الجانب الآخر من القضية تواصل حركة النهضة العزف على وتر الاستقواء بالخارج، سواء عبر البحث عن الدعم الأميركي أو الفرنسي أو البريطاني أو التركي أو غيره، وهي في ذلك مستعدة للعب دور الوكالة لأي مشروع إقليمي أو دولي مقابل العودة إلى السلطة، ولذلك نراها تضخمُ أي موقف خارجي يوجه نقدا أو تحفظا للمسار السياسي الجديد بعد 25 يوليو 2021.

ومع ذلك يجدر بنا القول إن تباطؤ الرئيس قيس سعيد وتردده في اتخاذ مواقف حاسمة سواء في مواجهة خصومه، أو في وضع خطة تعالج الأزمة الاقتصادية والغموض السياسي، وفر فرصا كثيرة لمعارضيه لمحاولة عزل تونس إقليميا ودوليا، وعرقلة كل تفاهمات تسعى البلاد إلى إبرامها مع جهات دولية مانحة، والهدف من ذلك هو تصوير مرحلة قيس سعيد على أنها مرحلة أزمة خانقة. ولعل الإسراع في رسم ملامح المرحلة القادمة، بالإعلان عن جدول للانتخابات التشريعية المبكرة تسفر عن برلمان جديد وحكومة قوية هو عامل يمكن تونس من قطع الطريق أمام ما يتربص بها من أخطار متعددة، تبدأ من تزايد منسوب المؤامرات الإخوانية التركية القطرية التي لم تيأس من مساعي إعادة الإخوان، حتى لو اقتضى الأمر تأزيم الأوضاع الاقتصادية وتحويلها إلى مقدمات احتقان اجتماعي لا يبقي ولا يذر.