وصلت موسكو بعد منتصف الليل فلفحت وجهي موجة صقيع ضربت البلاد دون أي احترام لفكرة تعاقب الفصول الأربعة فحولت ربيع المدينة إلى شتاء ثقيل غطى شوارعها بالثلوج.

في الفندق استقبلني موظف الاستقبال الشاب بابتسامة تقليدية.

كانت الشارة على صدره تعلن أن اسمه آرثر.

قلت له باسما: اسمك آرثر.. آرثر ميلر، هل تعرف من هو آرثر ميلر؟

ابتسم الشاب ثانية وقال: في الحقيقة لا أعرف، لعله رجل مهم.

"هو كذلك بالفعل رجل مهم جدا إنه كاتب ومفكر أميركي كبير"، لم يعلق الفتى، إذ يبدو أن كلمة " أميركي" أثارت حفيظتة!! كان قد أنهي إجراءات تسجيل دخولي الفندق فيما أنا أتحدث فنظر إليّ بأدب قائلا مرحبا بك في موسكو زميلي سيصحبك إلى الحجرة.

دخلت الغرفة على أمل أن أتمكن من النوم بعد عناء سفر طويل، فغلبتني أفكاري ورد فعل موظف الاستقبال الشاب على وصفي له بأنه يحمل اسم آرثر ميلر.

آه لو كان يعرف مكانة وقدر الرجل ربما لتبدل حاله وشعر بقدر من الفخر.

آرثر ميلر

هو الأميركي المتمرد المولود في نيويورك لأب يهودي كان يعمل خياطا ومصمما للأزياء، شق ميلر طريقه الإبداعي مطلع أربعينيات القرن العشرين ليصبح واحدا من أهم كتابها واحتلت مسرحياته موقع الصدارة في برودواي وسرعان ما أثارت آرائه ومواقفه حفيظة "المكارثيين" فكان واحدا ممن شملتهم الملاحقات بدعوى انتمائهم للشيوعية، وفي عام 1957 وضع اسم ميلر ضمن قائمة الـ320 من العاملين في مجال الثقافة والفنون الذين منعوا من العمل بقرار من لجنة النشاطات المعادية لأميركا، حتى أن البعض اعتبر زواجه من أسطورة الإغراء الأميركية مارلين مونرو محاولة للتمويه والتهرب من الاتهام بالانتماء للشيوعية.

كان ميلر حتى وفاته يساريا تقدميا معاديا للسياسات الأميركية حتى أنه وصف إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش بأنها تقود الولايات المتحدة من مصيبة إلى أخرى، وتلقي القبض على الناس في الشوارع، لا لشيء إلا بسبب أن وجوههم تدل على انتمائهم إلى جنس معين، وتريد تحويل الأميركيين إلى مباحث، أما يهوديته فلم تمنعه من توجيه الانتقادات لإسرائيل حتى أنه فكر في رفض تسلم "جائزة القدس" لكنه عدل عن الفكرة ليعلن موقفه على الملأ عبر شريط فيديو أرسله لمانحي الجائزة انتقد فيه "إسرائيل" وسياسة الاستيطان وقمع الفلسطينيين داعيا إلى قيام دولة فلسطينية.

بريماكوف

استيقظت قبل ظهر اليوم التالي استعدادا لبدء العمل في تغطية الحرب المستعرة في أوكرانيا والتي سمتها موسكو "عملية خاصة لحماية الدونباس"، وحين نظرت من شرفة حجرتي فوجئت بأنها تطل على تمثال السياسي الروسي المخضرم يفغيني بريماكوف واقفا في شموخ موليا وجهه شطر مبنى وزارة الخارجية الروسية العريق.

آه من تلك المصادفات العجيبة، في الليل التقي أرثر ميلر وفي النهار يقتحمني بريماكوف.

بريماكوف هذا الرجل الذي ولد للمفارقة في مدينة كييف الأوكرانية عام 1929، وحين بلغ السبعين من عمره كان يشغل منصب رئيس وزراء روسيا حين أقدم على ما سمي لاحقا "انعطافة الأطلسي" حيث كان في طريقه إلى واشنطن يوم 24 مارس 1999 وحين علم بنبأ قصف الناتو ليوغوسلافيا قرر عدم إتمام الزيارة وعاد إلى بلاده في خطوة وضعت لاحقا واحدا من أهم ركائز الدبلوماسية الروسية في عهد ما بعد الحرب الباردة، وفاجأ تصرف بريماكوف واشنطن التي كانت تحت إدارة الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون حيث كانت أميركا قد اعتادت على أن تقول موسكو في ذلك الوقت "نعم" لكل التصرفات الأميركية، في ظل حرص روسيا على عهد الرئيس يلتسين على بناء علاقة جيدة مع الناتو والولايات المتحدة الأميركية، ودشنت خطوة بريماكوف لمرحلة جديدة في مسار سياسة موسكو الخارجية من التوافق مع الغرب إلى الدفاع عن مصالح روسيا الوطنية حتى ولو على حساب العلاقات الودية مع الغرب إذا لزم الأمر.

لذا لم يكن غريبا أن يسترجع الرئيس الروسي فلاديمير بوتن مواقف بريماكوف أمام مؤتمر الأمن في ميونخ عام 2007 ليذكر الغرب بانعطافة بريماكوف الشهيرة، ويعيد التأكيد في حفل رفع الستار عن تمثال بريماكوف الذي يقف منتصبا أمام مبنى وزارة الخارجية على مواقف الرجل الذي قال إنه كان يحترمه ويقدره ويتعلم منه.

كرة النار

في الحرب الدائرة حاليا بين روسيا من جهة والغرب بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا من جهة أخرى، والتي تتخذ من أوكرانيا ساحة لها تجسيد لما كان يرفضه آرثر ميلر وما كان يحذر منه ويؤسس لسبل مواجهته بريماكوف.

إن مخالفة الولايات المتحدة لاتفاق عدم تمدد حلف الناتو شرقا هو السبب الرئيسي لما يعيشه العالم من استقطاب حاد حاليا خانت فيه أميركا والغرب قيم الليبرالية التي أسست امبراطوريتها وفقا لها وراحت تبشر بها وتدافع عنها، فإذا بها تصادر وتجمد بل وتؤمم ممتلكات رجال الأعمال الروس.

لم تتعلم أميركا وتابعوها في الغرب من "انعطافة الأطلسي" التي فعلها بريماكوف بل لعلها خبرتها جيدا وأعدت العدة لمواجهتها حتى ولو بعد ثلاثة وعشرين عاما.

لم يكن بمقدور بوتن الذي ذاق مرارة انهيار الاتحاد السوفيتي وتحول من ضابط في المخابرات الروسية إلى شخص عادي يعمل في مهن متواضعة قبل أن يسترد عافيته ويستعيد دوره حتى بلغ الكرملين أن يغض الطرف عن تمدد حلف الناتو شرقا حتى بلوغ حديقة منزله.

الكل كان يعرف أن استفزاز روسيا على هذا النحو سيقود حتما إلى مواجهة مسلحة بين الطرفين في ساحة مفتوحة اسمها أوكرانيا، الولايات المتحدة التي دفعت الجميع إلى هذا المشهد لا تريد نهاية قريبة لهذا الصراع فهي ترى أن استعادة موسكو لدورها المحوري في صناعة القرار الدولي يمثل خطرا داهما على مصالحها خاصة في ظل التحالف المتين مع الصين وخطط تطوير العلاقات الاستراتيجية بين روسيا وأوروبا فكان لابد من دفع الأمور إلى ما هي عليه لتتوقف عربة الشراكة الروسية الأوروبية وتبدأ خطة حصار روسيا واستنزافها عسكريا واقتصاديا.

أما الرئيس الأوكراني "زيلينسكي" فيشبه إلى حد كبير المعارضين الكوبيين الذين ألقت بهم الولايات المتحدة لمواجهة الثورة الكوبية قبيل اندلاع أزمة خليج الجنازير وتركتهم يقتلون أو يؤسرون وتتم محاكمتهم لاحقا لتبرم اتفاقا بعد ذلك مع الاتحاد السوفيتي يقود إلى تهدئة المواجهات بين الجانبين.

قد لا تنتهي الحرب الدائرة حاليا كما انتهت أزمة خليج الخنازير لكنها ستبقى دون شك جولة من جولات الصراع بين المعسكرين، جولة يدفع تكاليفها الباهظة الشعب الأوكراني الذين وجد نفسه في عين العاصفة، بينما تسعى أميركا للدفاع عن مصالحها الإمبراطورية التي رفضها آرثر ميلر، وتواصل روسيا عملية التأسيس لمرحلة جديدة في نظام عالمي متعدد الأقطاب بشر به بريماكوف.