قيمة أي إبداع إنّما تسكن الموقف من الميثولوجيا. تسكن تحديداً المكان الذي ينتمي إلى طينة الإبداع. وهو ما يعني أن قيمة المكان إنّما تسكن ميثولوجيا المكان.

لأن هذه الميثولوجيا هي التي تبدع هوية المكان، هوية هذا المكان، لتمييزه عن أيّ مكان؛ فهي وحدها المفوّضة بتلفيق واقع المكان، الذي لن يكون في النتيجة سوى ذخيرة المكان، ثروة المكان، التي ستسوّق كحجّة تصنع مجد المكان.

ولكن هل تكتفي الميثولوجيا باعتناق دور الناطق بلسان المكان كمكان؟

الواقع أننا لا نستطيع أن نعترف للميثولوجيا بهذا الشرف ما لم تتفوّق على نفسها، وتنتحل صلاحيات الناطق الرسمي باسم روح المكان، وليس باسم المكان، كمجرد مكان. فهذه الكاهنة التي ترطن بلسان الشعر، وتعتنق دين الفلسفة، وتحترف تلاوة صلواتها في محراب معبودٍ هو الوجود، تتباهى بماهيّة ترجمان الزمن الضائع، مستعيرةً سلطة ذاكرة: ذاكرة الواقع المنسي.

والواقع هنا واقعان في طبيعة المكان، في طبيعة أيّ مكان: واقع حرفيّ، وآخر روحي. ولمّا كنّا على يقين القدّيس بولس الذي يتغنَّى: «نحن غير معنيين بالأشياء التي تُرَى، ولكن بالأشياء التي لا تُرَى، لأن الأشياء التي تُرى، وقتيّة، ولكن الأشياء التي لا تُرى فأبديّة»، فليس لنا إلّا أن نؤمن بوجوب استنطاق البُعد الذي يبدو مغترباً في واقع المكان، الواقع المستخفّ بكل ما ارتضى أن يبقى غنيمة رؤية، مقابل البحث عن البعد الضائع في المكان، المفتون بسلطان حدسٍ يعتنق دين الرؤيا، بدل الإكتفاء بغنيمة حسّ هي الرؤية.

ففي بُعّدٍ مّا، تستعير الميثولوجيا مواهب سحرية تهبها صلاحية المستودع الذي يستوعب هوية المكان، بعد أن كان المكان هو المستودع الذي ننهل من جوفه ثروة الميثولوجيا. وهو ما لا يتحقق بدون تدخّل الشّعر لتلفيق بنود الصفقة، ما دام الشعر هو رطانة الميثولوجيا. فالترياق في استعادة المنسيّ، الذي انطوى بمشيئة عدوّ الوجود، وهو النسيان، لا يستقيم بدون الإحتكام إلى ساحة الشعر، لاستنطاق اللغز الذي يسكن الإنسان، لاستطلاع العلاقة مع وجودٍ بطل الأبطال فيه هو هذا الإنسان.

ولكن الرهان يبقى في الدرس الذي تلقّنه لنا الميثولوجيا. هذا الدرس رهين الحقيقة. فكلّ الثروة الدينيّة والفلسفية والوجودية التي تسكن هذا الخطاب الشعريّ إنّما تحتال لتستدرجنا إلى حرم الحقيقة: الحقيقة  المنسيّة التي تسكن البُعد الضائع، أو الزمن الضائع. فالميثولوجيا هوية تحلّق خارج سماوات التاريخ، ولكنها تستميت لكي تحقق تاريخها هي، البديل للتاريخ، بمفهومنا للتاريخ. ولهذا السبب نصّبت النسيان على الواقع بعبعاً جديراً بأن ينتحل هوية تمحو التاريخ، لتفسح المجال للأبديّة كي تقول كلمتها في شأن وجودٍ هو سليل شرعي للتاريخ.

الأبديّة، إذاً، وطن الميثولوجيا، والحقيقة في واقع هذا الوطن رهان خلود. في هذا البعد لا يعود المكان الجغرافيّ مستودع ميثولوجيا، ولكن المكان الغيبيّ، المسكون بالحرية، يغدو هو المستودع. المستودع الذي يبتلع المكان، ويستوعب كل الأمكنة، لتستعير الميثولوجيا عبقرية المكان، لأنها الحجّة التي وُجدت لتنفي وجود المكان، بماهيّتها كروح مكان.

ولهذا السبب صارت الميثولوجيا بلا جنسيّة، بلا هويّة، لأن الوديعة التي تسكنها هي الحقيقة المغتربة بطبيعتها عن كل ما متّ بعلاقة للمكان. ولهذا أيضاً هيمن مفهوم الأسطورة المهاجرة في عالمنا، كأسطورة الخلق، أو أسطورة الطوفان، الجارية في أدبيات كل الأمم.

ولمّا كان المكان ميثولوجيّاً، فمن الطبيعي أن يكتسب قرينه الزمان هوية ميثولوجية أيضاً. فالزمن الميثولوجي سرمديّ، مطلق، لا يعترف بالقسمة الشائعة القاضية بحشره في ثالوث الأمس واليوم والغد. إنه زمن يسكن البعد المفقود، ولذا فوحده خالد. المناخ الميثولوجي يهيمن على كل الواقع الإنساني. فالدّين أيضاً يتنفّس برئة الميثولوجيا، فيحقن مفهوم «الكتاب المقدّس» بهويّة المؤلف المجهول، إمعاناً في محو الهوية الدنيوية. والواقع أن المفهوم لا يكتفي بنفي صفة المجهول عن المؤلّف، ولكنه يغامر، في أحيانٍ كثيرة، بنفي المبدأ الأرضي للكتاب، عندما يستنزل فيه البعد الضائع، لدى بعض الأمم، مع تعمّد الإحتفاظ بروح المتن، المنسوب للأصل المفقود عادةً، تعبيراً عن الظمأ الخالد إلى الألوهة.

ولكن ما موقف التاريخ من الزمن المنسيّ، الذي حقّ لنا أن نخلع عليه لقب «الزمن الميثولوجي»؟

ما يليق بالتاريخ هو النفي بالطبع، وهو الذي لم يعترف يوماً بوجود ما سبق. ولم يكن إنسان التاريخ، أو أو سليل التاريخ، ليكذّب وصايا التاريخ في حقّ مجهول كالزمن الأسطوري وهو الذي لم يعترف إلّا بحوليات شهود العيان، ولكن هذا اليقين لم يمنع إنسان مهووس بالميثولوجيا مثل العلّامة «شليمان»، الذي آلى على نفسه أن يسفّة حجج التاريخ في حقّ الزمن الميثولوجي، فقرّر ذات يوم في القرن التاسع عشر أن يقوم بمغامرة البحث عن كنوز الملك «بريّام» الطروادي التي ورد ذكرها في ملحمة «الإلياذة»، فكان من الطبيعي أن يُتّهَم بالجنون من قبل معتنقي دين التاريخ، في بعده الحرفيّ، ليقينهم بعدم وجود كنوز للملك «بريام»، وذلك لعدم وجود برهان على وجود إنسان باسم هوميروس كمؤلّف لمتن أسطوري مثل «الإلياذة»!

وكم كانت مفاجأة تاريخية مزعزعة عندما تلقّت المحافل العلمية نبأ اكتشاف ذهب طروادة في موقع بتخوم الأناضول، برغم كل العراقيل التي وضعتها السلطات العثمانية في طريق درويش الزمان المدعو «شليمان». هذا الإكتشاف أبطل مفعول حجج التاريخ القاضية بنفي وجود الزمن الما قبل تاريخي، لأن ما سقط من ذاكرة هذا الطاغية المكابر، المدعو تاريخاً، لا حظّ له في الحضور قيد الوجود. فهل مازلنا في حاجة لشهادة، أو صكّ غفران، من جناب التاريخ كي نؤمن ببطلان حقّ الزمن الضائع في البرهنة على وجود، بعد اكتشاف «شليمان»؟

أليس من حقّنا، بعد الآن، أن نتساءل عن موقف الزمن الضائع (الميثولوجي) من جلّاد التاريخ، بعد أن كنّا نتساهل، فنتساءل عن موقف التاريخ من ثروات هذا الزمن المنسيّ؟

يستهلّ دهاة الطوارق كل سيرة أُريد لها أن تنتمي إلى البُعد الزمني المغتنم من قبل النسيان:

»Aidagh iga animer ebdagan kadewan«

(حدث هذا عندما كانت الحجارة مازالت رخوة).

ما معنى أن يحدث في زمن مازالت فيه الحجارة رخوةً؟

هذا يعني أن الحدث ينتمي إلى زمن أسطوري، ليس يسيراً تخيّل مدى قدمته، لأن أن يشهد حدوث الحدث ماضياً موغلاً في القدم، عندما كانت الحجارة رخوة، إنّما يعني أن طينة الأرض كلها مازالت وحلاً، أي أن طينة العالم مازالت في طور التكوين. وهو التحدّي السافر والأكثر استعصاء في حقّ تاريخ لا يعترف في ذاكرته سوى بحجّة هشّة هي المدوّنة.

وها هم قدماء العرب يهرعون لنا بالبرهان على حقيقة الزمن الميثولوجي فيطلقون على هذا الزمن المغترب، عندما كانت الحجارة فيه مازالت رطبة، إسم «الفطحل»، حسماً للجدل.

والواقع أن الجدل، منذ هذه الساعة، لن يبقى مع جناب التاريخ، ولكنه سيتطوّر لينشب مع الطبيعة نفسها، لأنها وحدها المخوّلة بأن تنبّئنا عن حقيقة الزمن الذي كانت فيه حجارتها رخوةً!

لا أدري بماذا كان شيلّلينج سيجيب فيما لو أمهلته الأقدار حتى شهد النتيجة التي أفضت إليها مغامرة شليمان، وهو الذي راهن على تاريخانيّة الميثولوجيا في عمله المرجعي «فلسفة الميثولوجيا».

فالتحدّي الجدير حقّاً بالمخاطرة إنّما يكمن الآن في مفهوم الفطحل، الذي يحاجج ببرهان مثير للفضول، مترجم في حرف «الحجارة الرخوة»، بوصفه معالجة شعرية لحداثة العهد بالتكوين! أي تلك الأعجوبة التي عبّرت عنها لغات العالم القديم، وفي مقدمتها اليونانية، باسم «einai» الدالّ في الترجمة من لغة بدئية كلغة الطوارق، على «الجديد»، أو الإنبثاق، أو الحضور في حضرة حدوث حدث، كناية عن الخلق، أو ما سوّقته المتون المقدسة باسم: التكوين، وأبت اللغات أن تنصّبه قريناً للرقم التاسع في حساب الأعداد، الرديف، في مفهوم الميثولوجيا، لاكتمال، أو نضج، الجنين، الذي لم يكن له إلّا أن يكون جنين الكينونة، لتتبنّاه المصرية القديمة في مبدأ التاسوع لمحفل أرباب، في حين تعتنقه اليونانية في تاسوع ربّات الفنون، ليبدأ هذا الرقم رحلته السحرية الخالدة، لتهرع كل الكتب المقدّسة لتؤكّد هوية هذا العالم كمعطى مخلوق، لم يكن له أن يحقّق وجوداً لو لا فعل خالق. وهو ما يعني أن العالم الذي كان شاهداً على رخاوة في الطبيعة، لن يضيره ألّا يكون شاهداً أيضاً على طفولة: طفولة جنينٍ هو: الإنسانية، في واقع طفولة طبيعة، مشفوع بطفولة الزمن، استكمالاً لبنود المعادلة.

وأحسب أن العقدة ستبقى قائمة مع حجّة الطبيعة ما لم يتدخّل علماء الجيولوجيا ليُجيبونا عن تساؤلنا بعملية حسابية: كم يستغرق الطين من زمن كي يتحوّل صلداً؟

الرقم سيكون أسطورياً أيضاً بالطبع، بل فلكيّاً، لأن المهلة لن تقلّ عن ملايين الأعوام، ولكنها تبقى جديرة بروح إنسان يعتنق دين المنسيّ، فيطلق على الأساطير إسم: «إيمايّان» الدالّ، في لغة أمّة أسطورية كالطوارق، على «المنسيّات» أو «المهملات»، أو «المهجورات»، كناية عن مبدأ سقط من خزنة الذاكرة.

فحتّى في حال استنجدنا بالجمجمة ذات السبعة ملايين سنة، المكتشفة في الصحراء الكبرى في الآونة الأخيرة، فإن حجّة «الحجارة الرخوة» ستبقى رمية محال في قاع بئر الزمن الضائع، كإهانة في حقّ التاريخ، مستجيرةً بتلابيب شطحة خيالٍ جسور، مسكونٍ بحدسٍ موسوسٍ برؤية شعرية، تعبيراً عن حداثة العهد بالمهد الوجوديّ، لمعالجة تجربة حرفيّة، ترطن بمنطق درس أخلاقيّ، صيغ في أمثولة، تصلح لأن تكون لأجيال الخلف خارطة طريق.