يعيش العالم حاليا أكثر المراحل دقة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. فقد فتح الصراع الدائر في أوكرانيا أبواب المجهول للقوى الكبرى كافة، وانسحبت سلبياتها على الصغار الدائرين في فلك هذه القوى.
ولا يزال في علم الغيب التكهن بخريطة واضحة للعلاقات الاقتصادية التي تنسج المصالح السياسية وترسي التحالفات المستجدة بين المحاور العالمية.
علامات استفهام ضخمة تحتل مساحة التحليل والقراءة في فصول الأحداث المتسارعة التي تنسف ما قبلها وتغرق تحت وطأة ما بعدها، وتفرزها الأهواء والأمنيات أكثر مما تفرزها الوقائع والمعطيات.
بالتالي تصعب دراسة مفاعيل العقوبات الأميركية على روسيا بعد إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، قبل أيام، أنه سيتعيّن على المشترين الأجانب سداد ثمن الغاز بالروبل وفتح حسابات لهذه الغاية في البنوك الروسية، وإلا ستتوقف العقود.
فإذا ما التزمت الدول الأوروبية بهذا الشرط، ستكون خارجة عن الطاعة الأميركية، وللأمر تداعياته.
أيضا، ينبغي التوقف عند تصريح وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان أن بلاده اقتربت من التوصل إلى اتفاق في مفاوضات فيينا النووية، مشيراً إلى أن "الكرة باتت في ملعب الولايات المتحدة".
والكرة هي الشرط الإيراني المتعلق بموافقة الولايات المتحدة على رفع العقوبات عن "الحرس الثوري الإيراني"، التي يبدو أن الرئيس الأميركي جو بايدن لا يزال مترددا حيالها، وإلا كيف يُتَرْجَم استعداده لسحب مليون برميل نفط يومياً من الاحتياطي الاستراتيجي لمدة ستة أشهر بدءاً من أيار (مايو)؟؟
أما إذا ما أُنجز الاتفاق، الذي أصبح شبه جاهزٍ بكل تفاصيله حسب المعلومات المتواترة، فسوف يُغرق النفط الإيراني الأسواق الأوروبية وغيرها، الأمر الذي سيتسبب بأزمات جديدة لن تقف دول الخليج مكتوفة الأيدي حيالها. وتحديدا بعدما كانت قد رفضت الاستجابة لضغوط بايدن لجهة زيادة الإنتاج وطرد روسيا من مجموعة "أوبك+".
وفي هذا الإطار، يحدثني مسؤول عربي كبير، فيؤكد أن الحرب في أوكرانيا لا بد أن تضع الولايات المتحدة أمام استحقاق يقضي بتغيير سياساتها حيال الدول العربية، عموما والخليجية خصوصا، يبدو أن الموقف الخليجي، وتحديدا موقف الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية سيكون حازما إزاء ما وصفه بـ"التهاون الأميركي" حيال الحلفاء، و"اللهاث لتوقيع اتفاق نووي مع إيران، من دون حسم مسألة التعديات الإيرانية على العرب في الإقليم".
بالتأكيد، لا يمكن تجاهل مسار ميزان العلاقات بين الصين والولايات المتحدة، الذي ترجح كفته الصينية مع ما سيفرزه من إعادة تموضع يتخطى بكثير العلاقات الثنائية، إلى محاور متشعبة الاتجاهات، وتحديدا بعدما قال وزير الخارجية الصيني وانغ يي إن بلاده "تقف على الجانب الصحيح من التاريخ بشأن الأزمة الأوكرانية، كما سيثبت الوقت ذلك"، وإن "موقفها يتماشى مع رغبات معظم الدول".
وكما كل الدول التي حاولت الإدارة الأميركية الضغط عليها بشأن مواقف على قياس مصالحها من الحرب في أوكرانيا، جاء موقف الصين حازما بأنها "لن تقبل أبدا أي إكراه أو ضغط خارجي، وتعارض أي اتهامات لا أساس لها أو مريبة ضدها".
وفي حين حذَّر الجانب الأميركي من "العواقب"، للدول التي يمكن أن تقدم دعما لروسيا في أوكرانيا، يبدو أن على هذا الجانب أن يحْذَر هو من هذه "العواقب" وأن يراجع حساباته، لا سيما عندما تتعارض هذه الحسابات مع مصالح حلفائه الأوروبيين والعرب، كما مع الخصوم الذين يتجاوزون المعايير الدولية لتوسيع مناطق نفوذهم في ظل هذه الفوضى التي تسببت بها مغامرة بوتين في أوكرانيا.
هذا عدا اهتزاز الأمن الغذائي العالمي، خصوصاً أن روسيا وأوكرانيا من أبرز البلدان المصدرة للقمح والمواد الأولية الأساسية، وتأثير هذه الأزمة على المنطقة العربية وأوروبا.
وقبل كل شيء، عدا مآسي القتل والتهجير التي يدفع ثمنها الشعب الأوكراني من دمه وأمانه ومستقبله، كما دفعت شعوب أخرى هذا الثمن، نتيجة تسلط الأقوى على الأضعف، ونتيجة التخلف عن دعم هذه الشعوب المنكوبة.
كل هذه التناقضات التي تحكم مفاعيل التوغل العسكري الروسي في أوكرانيا وعدم التوصل إلى إنهائه بمفاوضات سريعة تعيد السلام والاستقرار إلى العالم بأسره، تضع التاريخ في عنق زجاجة، لن يكون سهلا الخروج منها.
وإذا خرج سيُسجِّل أن العالم بصيغته التي نعرف، كان يتساقط ببطء وصولا إلى اللحظة الراهنة نتيجة السياسات التعسفية تارة والمتراخية طورا، وما ستتمخض عنه الصيغ الجيدة لن تُبقي ما كان قائما على حاله.