بنهاية الحرب العالمية الثانية برزت أميركا بوصفها الاقتصاد الأكبر في العالم، إذ بلغ حجم ناتجها القومي حينها نحو ثلاثة أرباع الاقتصاد العالمي بسبب الدمار الفظيع الذي لحق بأوروبا ومصانعها في أثناء الحرب.
بقيت أميركا في صدارة الاقتصاد العالمي إلى يومنا هذا حتى وإن تراجعت حصتها من هذا الاقتصاد، خصوصاً بعد إعادة إعمار أوروبا واليابان بمساعدة أميركية هائلة عبر خطة مارشال المعروفة.
في إطار الحرب الباردة ضد المعسكر الشرقي، بدأت أميركا تستخدم قوتها الاقتصادية كسلاح سياسي ضد خصومها كالاتحاد السوفيتي في أول عقوباتها ضده في 1948 والصين في 1949 وكوريا الشمالية في 1950 وإيران في عهد محمد مصدق في 1953 وفيتنام الشمالية في 1954.
قبل ذلك، لم يكن لأميركا تاريخ طويل في استخدام العقوبات الاقتصادية، فأول عقوباتها كانت فاشلة.
كان ذلك في بداية القرن التاسع عشر، في عهد رئيسها الثاني، توماس جيفرسون، الذي أصدر الكونغرس بطلب منه قانون الحظر البحري في 1807 في إطار الحروب النابليونية بين عامي 1803 و1815 التي وضعت فرنسا، الثائرة والمُتحفزة بقيادة نابليون بونابرت، بمواجهات حربية ضد أوروبا عموماً، وبريطانيا خصوصاً.
صَدَر القانون لردع السلوك البريطاني المتعسف بإيقاف السفن الأميركية وتفتيشها واعتقال بحارتها بسبب الشك بأنهم بريطانيون فارون من الخدمة في الأسطول البريطاني، لكن الأغلبية الساحقة من البحارين المعتقلين كانوا أميركيين، بحدود 9 آلاف من بين 10 آلاف بحار معتقل.
كان الغضب الأميركي على التغول البريطاني هائلاً، ليمرر الكونغرس قانون الحظر هذا ويمنع إبحار السفن الأميركية في المحيط الأطلسي نحو أوروبا وحرمان الأخيرة، بريطانيا تحديداً، من البضائع الأميركية الرخيصة. لكن تأثير هذه العقوبات كان سلبياً على أميركا، إذ عانى منها المزارعون الأميركيون، منتجو القطن خصوصاً، كما ازداد تهريب البضائع الأميركية إلى كندا وشحنها من هناك إلى أوروبا.
بنهاية الفترة الرئاسية الثانية للرئيس جيفرسون في 1809، قرَرَ الكونغرس إيقاف العمل بقانون المقاطعة الاقتصادية الكارثي هذا! على مدى قرن تال، لم تتخذ أميركا قرارات ذات شأن بخصوص عقوبات اقتصادية مهمة.
في المقابل، وعلى امتداد القرن التاسع عشر، سادَ مفهوم "الحصارات السلمية"، الذي استخدمته الدول الأوروبية الأقوى ضد خصومها الأضعف في أنحاء العالم المختلفة. عنت هذه قيام أساطيل هذه الدول بفرض حصارات بحرية ضد موانئ دول أخرى لمنع تصديرها أو استيرادها البضائع كأحد وسائل التركيع السياسي.
أصبحت العقوبات الاقتصادية أكثر وضوحاً واستخداماً في النصف الثاني من القرن العشرين. من الصعب إعطاء تقييم دقيق ينطبق على نحو عام لتحديد مدى فعالية العقوبات الاقتصادية ونجاحها في تحقيق أهدافها.
يشير باحثون في هذا المجال إلى أن 40 بالمئة من حالات فرض العقوبات كانت ناجحة، فيما يقلل آخرون هذه النسبة ويزيدها غيرهم.
ليس هناك معيار واضح وصارم ينطبق على كل أنواع العقوبات الاقتصادية لإصدار حكم عام ودقيق بشأنها، إذ يعتمد تقدير كل حزمة عقوبات بالسياق الذي فرضت فيه والطرف المستهدف منها وأسباب العقوبات وأهدافها.
فمثلاً نجحت العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الأمم المتحدة ضد ليبيا في 1992 بطلب أميركي وبريطاني بعد اتهامها بتفجير طائرة ركاب أميركية فوق بلدة لوكربي الاسكتلندية في نهاية 1988.
لم تكن العقوبات شاملة بل دقيقة في تركيزها، إذ شملت تجميد بعض الودائع الليبية وحظراً على بيع السلاح لليبيا ومعدات ضرورية في القطاع النفطي ومنع الطيران منها أو استخدام خطوطها الجوية فضلاً عن مقاطعة دبلوماسية. رُفعت هذ العقوبات عن ليبيا بعد 11 عاما، في 2003، إثر موافقة الأخيرة على تسليم الليبيين الأثنيَن المُتهمين بالتفجير كي تحاكمهما محكمة اسكتلندية ودفعها 10 ملايين دولار لعائلة كل ضحية من الـ 270 شخصاً الذين فقدوا حياتهم بسبب التفجير.
أمثلة أخرى على عقوبات ناجحة هي تلك المتعلقة بالعقوبات الدولية ضد جنوب إفريقيا التي بدأت في 1963 بفرض حظر سلاح وآخر نفطي (كان كلاهما طوعياً في البداية ثم أصبحا إلزاميَين) لإجبار الحكومة الاتحادية في جنوب إفريقيا على إلغاء نظام الفصل العنصري الذي كان يميز بشكل أساسي ضد الأغلبية السوداء والمواطنين من ذوي الأصل الهندي. في الثمانينات، اتسعت العقوبات ضد جنوب إفريقيا بدخول دول آسيوية وغربية فيها فَرضت عقوباتها الخاصة كاليابان والسويد وأميركا.
رُفعت هذه العقوبات تدريجياً على مدى ثلاث سنوات بين عامي 1991 بعد إطلاق سراح نيلسون مانديلا في العام السابق وعام 1994 بعد انتخاب الرجل رئيساً للبلاد في أول انتخابات عامة حرة ومتساوية. لكن يبقى العامل الأهم في إنهاء نظام الفصل العنصري هناك هو النضال الشجاع للناشطين الأفارقة وحلفائهم البيض والهنود والدعم العالمي المتصاعد لهذا النضال.
إيران مثالٌ آخر على نجاح العقوبات كأداة للضغط السياسي، إذ أجبرت العقوبات الاقتصادية الأميركية الصارمة الجمهورية الإسلامية على قبولها الدخول في مفاوضات جدية مع الغرب وروسيا والصين لتفكيك برنامجها النووي.
أنتجت المفاوضات اتفاقاً معقولاً لمدة 10 سنوات في عام 2015 للقيام بهذا التفكيك، قبل خروج أميركا من هذا الاتفاق في 2018 في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب.
لكن هناك أمثلة على فشل العقوبات الاقتصادية وتحولها إلى أحد أشكال الإيذاء غير المبرر للأبرياء دون تغيير في النظام السياسي المقصود أو سلوكه.
المثال الأبرز هنا هو العقوبات الأميركية الواسعة ضد كوبا منذ 1958 إلى الآن. تعتبر هذه العقوبات الأطول في التاريخ، إذ تجاوزت الستين عاماً، وبخلاف الفهم السائد الخاطئ، فإنها بدأت في عهد نظام باتيستا الدكتاتوري الحليف لأميركا عندما فرضت الأخيرة حظراً على توريد السلاح إلى الحكومة الكوبية في 1958، في إطار دعمها الضمني للتمرد المسلح الذي قاده فيدل كاسترو، قبل أن تكتشف أميركا مناهضة كاسترو لها بعد وصوله للحكم في 1959 واصطفافه التدريجي مع الاتحاد السوفيتي ضدها في أثناء الحرب الباردة.
حتى مع السعي المخلص للرئيس باراك أوباما لتخفيف العقوبات الأميركية الكثيرة ضد كوبا، فإن معظم هذه العقوبات ما يزال سارياً بسبب القوانين الأميركية الكثيرة (بحدود 6 قوانين) التي تفرض عقوبات مختلفة بدعم قوي من الأميركيين من أصل كوبي المناهضين للنظام الشيوعي في بلدهم الأم.
لكن تبقى أسوأ العقوبات الأميركية والدولية هي تلك التي فرضت على العراق بين عامي 1990و2003 بعد غزو الأخير الكويت. كانت عقوبات شاملة وقاسية آذت العراقيين العاديين أكثر بكثير من إيذائها نظام الحكم القمعي الذي استهدفته العقوبات اصلاً. في آخر المطاف، لم يسقط هذا النظام بسبب العقوبات، وإنما بسبب اجتياح عسكري أميركي بعد 13 عاماً من فرضها.
على مدى الأشهر المقبلة ستكون روسيا اختباراً جديداً لفاعلية العقوبات الاقتصادية بعد اتحاد الغرب ضدها اقتصادياً وسياسياً بسبب اجتياحها العسكري لأوكرانيا.
وبغض النظر عن نجاح هذه العقوبات من عدمها، ستبقى المعضلة الأخلاقية لأي منظومة عقوبات اقتصادية قائمة: استحالة التفريق بين النظام السياسي المُستهدف والناس الأبرياء.