العقوبات الاقتصادية سلاح سياسي للضغط على الدول الأخرى لإجبارها في الغالب على تغيير سلوكها السياسي.
أما عند تطبيقها على تنظيمات سياسية، فإن الهدف عادةً ما يكون إضعاف هذه التنظيمات بقصد هزيمتها أو الإجهاز عليها، كما في حالة العقوبات الدولية والوطنية السياسية والاقتصادية، ضد تنظيمات مسلحة متطرفة كالقاعدة وداعش أو في حالات نادرة تعديل سلوكها عندما يكون لهذه التنظيمات امتدادات شعبية حقيقية مرتبطة بمطالب مشروعة كما في حالة الجيش الجمهوري الأيرلندي السري ومنظمة التحرير الفلسطينية.
في هاتين الحالتين، كان هدف العقوبات دفع التنظيمين إلى التخلي عن السلاح والاستعاضة عنه بالتفاوض لتحقيق أهدافها المشروعة.
بخلاف الشائع عربياً، العقوبات الاقتصادية ليست تخصصاً أو سلوكاً أميركياً حصرياً، بل هي سلوك تتبعه معظم الدول الحديثة والمؤسسات الدولية والإقليمية بضمنها العربية وفي سياقات المختلفة.
العقوبات العربية الأشهر هي تلك التي فرضتها الجامعة العربية في عام ١٩٤٦ ضد من ستصبح دولة إسرائيل بعد عامين. بعد قرار الأمم المتحدة المرقم ١٨١ في نوفمبر ١٩٤٨ بالاعتراف بإسرائيل كدولة مستقلة، وخسارة الدول العربية الحرب التي شنتها ضدها، ازدادت العقوبات الاقتصادية ضدها أهميةً كأداة مواجهة غير عسكرية تقوم على الاستنزاف الاقتصادي الطويل الأمد.
على مدى نحو سبعة عقود تالية طُبقت فيها هذه العقوبات واتسعت لتتحول من عقوبات أولية ومباشرة (منع أي تعامل اقتصادي بين الدول المنضوية في الجامعة العربية وإسرائيل) إلى عقوبات ثانوية وغير مباشرة (عقوبة أطراف ثالثة في حال تعاملها الاقتصادي مع إسرائيل).
لم يُستخدم مصطلح العقوبات الاقتصادية عربياً في وصف هذه السياسة، وإنما جرت الاشارة اليها على انها "مقاطعة" اقتصادية، في تأكيد على أحقية الفاعل بالفعل وليس تأثير هذا الفعل على الطرف المقصود به، ومنح فعل العقوبات معنىً أخلاقياً وليس عقابياً.
فشلت هذه العقوبات الاقتصادية في إضعاف إسرائيل التي كانت تتقوى اقتصادياً ومؤسساتياً وتكنولوجياً بمرور الزمن فيما كانت الدول العربية تتراجع على هذه الأصعدة.
حاولت الدول العربية مرةً اخرى استخدام العقوبات في ١٩٧٨عندما وَقَعَت مصر، في ظل حكم رئيسها الأسبق محمد أنور السادات، معاهدةَ كامب ديفيد لتعلن معظم الدول العربية عقوبات سياسية واقتصادية ضد مصر.
تضمنت تلك العقوبات قطعَ الصلات السياسية مع مصر ونقل مقر الجامعة العربية من القاهرة إلى تونس، فضلاً عن منع استيراد المنتجات المصرية وإيقاف المساعدات المالية السنوية التي كانت تقدمها دول عربية لمصر بوصفها دولة مواجهة ضد إسرائيل.
لم تكن تلك العقوبات مؤثرة إذ بقيت مصر على الدرب الذي اختارته بخصوص التصالح مع اسرائيل واسترجاع أرضها المحتلة منها عبر التفاوض، بدلاً من الحرب.
في عام ١٩٩٠ أعلنت الجامعة العربية في مؤتمر قمة الدار البيضاء في المغرب إنهاء العقوبات بحق مصر وعودة الأخيرة إلى الجامعة العربية.
أقوى العقوبات الاقتصادية العربية وأشدها أثراً كانت الحظر النفطي الذي فرضته في أكتوبر عام ١٩٧٣ الدول العربية المنتجة للنفط إبان حرب أكتوبر بين مصر وسوريا من جهة وإسرائيل من جهة أخرى.
بموجب هذا الحظر النفطي الذي استهدف بضع دول داعمة لإسرائيل في الحرب، الأهم بينها أميركا وبريطانيا وهولندا وجنوب إفريقيا، توقفت هذه الدول العربية النفطية عن بيع النفط لها، وهو ما أدى إلى ارتفاع أسعار النفط بصورة كبيرة، بحدود ٤ أضعاف، وقاد إلى أزمة محروقات شديدة في أميركا وطوابير انتظار طويلة أمام محطات البنزين.
تلخص الشرط العربي لرفع العقوبات النفطية بضرورة انسحاب إسرائيل من كل الأراضي العربية التي احتلتها في حرب ١٩٦٧ التي تشمل مرتفعات الجولان والضفة الغربية وصحراء سيناء.
في آخر المطاف، لم يتحقق الشرط العربي، ورُفعت العقوبات، بشكل أساسي، بعد خمسة أشهر، في شهر مارس من العام التالي ١٩٧٤. مع ذلك استمر رفع الشعار الذي بررت هذه العقوبات الفاشلة باسمه: "النفط سلاح في المعركة."
لكن لم يكن العرب دائما سيئي الحظ بخصوص العقوبات الاقتصادية بعكس الشائع من أنهم مستهدفون على الدوام بهذه العقوبات. في الحقيقة، بعض لحظات الفخر والانتصار العربي تاريخياً ساهمت في صناعتها عقوبات اقتصادية أميركية.
الأهم بينها هو الانتصار المصري في حرب السويس في ١٩٥٦، المعروفة عربياً باسم العدوان الثلاثي، عندما تحالفت بريطانيا وفرنسا واسرائيل لشن هجوم عسكري منسق ضد مصر، بدأته إسرائيل في نهاية أكتوبر في ذلك العام.
كان الهدف النهائي من العدوان هو إعادة قناة السويس إلى السيطرة الفرنسية-البريطانية وإطاحة حكم جمال عبد الناصر الذي قام بجرأة وذكاء لافتين بتأميم القناة وتأكيد ملكية مصر لها عبر انتزاعها من شركة قناة السويس التي كان البريطانيون والفرنسيون يمتلكون معظم أسهمها وتعويض المالكين مالياً قيمة أسهمهم بسعر السوق.
رغم قانونية السلوك المصري، لم ترضَ العقلية الإمبريالية الفرنسية-البريطانية بخسارة القناة وتولي مصر إدارتها، فكانت النتيجة اجتياحاً عسكرياً كاد يُسقط حكم عبد الناصر لولا التدخل الأميركي بفرض عقوبات على بريطانيا وفرنسا شملت حظراً نفطياً وإجراءات مالية أضعفت قيمة الجنيه الإسترليني فضلاً عن قرار أصدرته الأمم المتحدة، بضغط أميركي، لوقف إطلاق النار وسحب القوات الغازية وهو ما حدث في آخر المطاف.
كان للاتحاد السوفيتي دور لافت ايضاً من خلال تهديد الرئيس السوفيتي نيكيتا خروشوف باستخدام السلاح النووي ضد الدولتين الأوربيتين المعتديتين في حال عدم وقف عدوانهما ضد مصر، رغم أن الوثائق التاريخية تكشف أن التراجع البريطاني-الفرنسي كان محفزاً أكثر بالقلق من ردود الفعل الأميركية من التهديد النووي السوفياتي.
فشل العالم العربي في أن يتحول الى كتلة اقتصادية مؤثرة وكبيرة، أضعف كثيراً قدرته على استخدام العقوبات الاقتصادية لدعم القضايا التي عليها إجماع سياسي وشعبي عربي كقضية فلسطين. فباستثناء النفط، لا يملك العالم العربي سلعة مؤثرة في الاقتصاد العالمي، وبمرور الزمن حتى هذه السلعة بدأت أهميتها تتراجع عالمياً مع ظهور منافسين في الإنتاج النفطي في أنحاء مختلفة في العالم.
يعكس استخدام الدول للعقوبات قوة اقتصاداتها وتنوعها، وهذه ميزة لا يتمتع بها هذه الأيام إلا عدد محدود من الدول كالولايات المتحدة الأميركية والصين وبريطانيا وألمانيا وفرنسا واليابان، فيما سيكون على الدول الأضعف اقتصادياً تحمل خيارات التعرض الى عقوبات اقتصادية إذا هددت سياساتها مصالح الدول المهيمنة اقتصادياً وسياسياً. السبب في ذلك هو أن استخدام العقوبات الاقتصادية الأحادية هو حق سيادي للدول لا يمثل خرقاً للقانون الدولي.
يتبع