في 27 فبراير الماضي، أي بعد مرور 4 أيام فقط على "العملية العسكرية" التي بدأتها القوات الروسية في أوكرانيا، نقل الإعلام الدولي من موسكو اجتماعا علنيا للرئيس الروسي فلاديمير بوتن مع وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو ورئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية فاليري غيراسيموف. أعطى بوتن في هذا الاجتماع أمراً بوضع "أسلحة الردع" الروسية النووية في حالة تأهب.

جاء القرار مفاجئا صادماً يرفع من مستوى خطورة هذه الحرب ويحضّرها لتأخذ أبعاداً تتجاوز ثنائية أطرافها.

وجاء القرار منذراً بأن إمكانات الانتقال إلى مستواها النووي بات مطروحاً ومن ضمن السيناريوهات المعلنة وليست المضمرة في خطط الرئيس الروسي.

وفيما سعى الخبراء في الشؤون الجيوستراتيجية كما المختصون في الشؤون العسكرية إلى الاهتداء إلى أسباب "الهلع" التي دفعت بوتن في اليوم الرابع لحرب تخوضها قوة بلاده الجبارة ضد قوة الجيش الأوكراني المتوسطة للتهويل بالسلاح النووي، خرج الرئيس الروسي بتفسيرات وتبريرات زادت من غموض دوافعه.

حرّك بوتن السلاح النووي وأمر بجعله جاهزاً، وفق منصات قناة "روسيا اليوم"، ردا على مسؤولي حلف الناتو الذين أدلوا بتصريحات عدوانية ضد روسيا". لم يرق لبوتن تلك "التصريحات" فاستعان ببساطة بأسلحة "الردع". 

لكن الغرابة تكمن في أن من ذهب إلى التلويح بالعدم النووي، لم يهدد، حتى الآن، بما هو أقل، باستخدام سلاح الغاز والنفط ضد الأطلسيين في أوروبا أصحاب التصريحات العدائية.

وفيما أقدم نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك في 7 مارس الجاري على التلويح بالأمر بالقول "إننا نستطيع قطع الغاز لكننا لم نفعل ذلك"، فإن الرئيس الروسي أعاد التأكيد في 10 من هذا الشهر "أننا ملتزمون بالعقود ولن نفعل ذلك".

والحال أنه يفترض أن موقع روسيا في هذه الحرب، مهما كانت مفاجآتها سيئة، لا يدعو إلى الذهاب بعيدا في القطيعة مع أوروبا في مجال الطاقة، لكنه أيضا، للمفارقة، لا يدفع باتجاه التلويح بالخيار النووي.

ومع ذلك مسّ بوتن محرّم سلاح الدمار الشامل ولم يلمّح إلى سلاح الطاقة البعيد عن أي دمار.

في الأرقام، التي ليست بالضرورة أن تكون مؤشّرا وحيداً، فإن أوروبا تضخّ نحو الخزينة الروسية كل يوم 600 مليون يورو مقابل ما تضخّه روسيا من غاز ونفط. بمعنى آخر، وفي موسم الحرب الأوكرانية، فإن مسؤولي أوروبا "السليطي اللسان" ضد روسيا يمولون الجهد الحربي الروسي هذه الأيام بمبالغ بالعملة الصعبة ليس من السهل الاستغناء عنها حتى لو أن روسيا تستطيع بيع الحصة الأوروبية بالين والروبل لدى أسواق بديلة، أهمها الصين.

في السياسة، فإن غاز ونفط روسيا يلعبان دورا أساسيا في تذكير أوروبا بما تساهم به روسيا داخل عصب الاقتصاد الأوروبي بالكمية والنوعية والأسعار التي تقوم عليها الديناميات الانتاجية والتصنيعية والاستهلاكية التي تقف وراء ثروات هذه المنطقة.

ولعل قرار الرئيس الأميركي جو بايدن وقف استيراد الولايات المتحدة النفط الخام والمشتقات النفطية من روسيا مقابل إعراض الدول الأوروبية عن انتهاج نفس الخيار، مؤشّر فاضح على مدى فعالية سلاح الطاقة الروسية في التعويل المأمول على إحداث شرخ لدى المعسكر المواجه لروسيا، حتى لو بدا هذا التعويل متعثراً ويائسا في المدى الآجل.

والحال أن الحضور الروسي في أوردة الطاقة في العالم ولدى أوروبا خصوصا يجعل من روسيا حتمية جيوستراتيجية من العسير عزلها وقطع الوصل معها.

صحيح أن بوتن قد يبالغ في الإيمان بإمكانية خضوع الحسابات الاقتصادية للحسابات الاستراتيجية للدول الأطلسية المستهلكة، لكنه لا يملك لتقويض هذه الوحدة الغربية الصلبة والنادرة إلا شراء المستقبل مع هذه الدول بالتأكيد أنه "شخصيا" ضامنٌ لاستقرار تدفق الطاقة، بالتالي استقرار اقتصادات الدول المعنية، في مواجهة وجوه أخرى (منها الوزير نوفاك الموحى له) تستسهل شهر سلاح الطاقة في وجه الخصوم.

وما بين سلاح الردع النووي الملوّح به وسلاح الطاقة الذي يؤكد بوتن إسقاطه وإخراجه من أي تداول، فإن الرئيس الروسي يسعى لإدارة أزمة تحولت إلى مأزق (بسبب وحدة غير محسوبة للمعسكر الغربي) من خلال الظهور بمظهر الممسك بزمام المبادرة وإبداء رباطة جأش وبعدٍ عن أي سلوك انفعالي تبسيطي كذلك الذي اقترب منه نائب رئيس الوزراء. وعلى هذا فإن بوتن "ملتزم بالعقود" متواصل مع الزعماء الأوربيين (لا سيما الرئيس الفرنسي والمستشار الألماني) وعلى تماسّ مع زعماء العالم ومتفاعل بإيجابية مع الرئيس التركي مستجيب لمبادرته بجمع وزيري خارجية روسيا وأوكرانيا في أنطاليا.

ولئن يستند بوتن على دعم دول مثل الصين التي يعوّل على سوقها بديلا، إلا أنه يدرك أن القطيعة في السياسة والطاقة مع أوروبا ستجعل من روسيا رهينة لدى "الصديق" الصيني مقيّدة بشروط منافذه في الدبلوماسية والتبادل التجاري. وبوتن الذي يتأمل جدية نزوع الشركاء الأوروبيين إلى سلوك طرق الطلاق النهائي مع الطاقة الواردة من روسيا ولو بعد حين، يستنتج أيضا، أنه وحتى إشعار آخر، وعلى الرغم من ضغوط داخلية في أوروبا تدعو إلى مقاطعة كل السلع الروسية بما فيها من النفط والغاز، فإن دول أوروبا ليست مستعجلة إلى قطيعة طالما بالإمكان تأجيلها.

والمفارقة أن حاجة موسكو وأوروبا معاً إلى حماية سوق الطاقة بينهما نزع طابع "السلاح" عن ذلك الملف، وجعله خارج التداول في المبارزة الأوروبية الروسية حول الحرب في أوكرانيا. حتى بوتن نفسه الذي تعوزه أسلحة للرد على قساوة الموقف الغربي الموحد رأى في الردع النووي دعابة ولو ثقيلة وفي سلاح الغاز سماجة وغباء لن يقترفه.