ما تلا حرب أكتوبر 1973 كان حادا فيما يتعلق بمفهوم الأمن القومي العربي، فلقد بنى الرئيس المصري الأسبق أنور السادات استراتيجية مختلفة عما كان سائدا في سياق القومية العربية بإعلانه الدخول في مفاوضات سياسية لاستكمال استعادة شبه جزيرة سيناء، وهو ما ترتب عليه زيارته التاريخية لإسرائيل حتى توقيع اتفاقية كامب ديفيد 1978.

وفتحت الاتفاقية حوارات عميقة وأحدثت شروخا بينية لم تسلم منها البنية الوطنية المصرية، التي تفشت فيها التيارات الراديكالية.

استراتيجيا حددت حرب أكتوبر 1973 التوازن في الشرق الأوسط، غير أنه مع مفاجأة عودة الخميني إلى طهران وإسقاط حكم الشاه وإقامة الجمهورية الإسلامية الإيرانية في حدث دراماتيكي تغيرت معه كل التوازنات التي سبقت 1979، بدأت حقبة تاريخية، فلقد شكلت ثورة الخميني مع حادثة جهيمان العتيبي في مكة المكرمة مسارا لما كان يعتمل في دواخل الوطنية من خلال التيار الراديكالي الديني.

وتأكيدا لعمق الأزمة في "الدولة الوطنية العربية"، تفجرت الحرب الأهلية اللبنانية مما أتاح التدخل الإيراني في شأن لبنان، حتى اندلعت الحرب العراقية الإيرانية التي يمكن أنها تكون ضمن نطاق الأمن القومي العربي، نظير أن العراق تحمل الحماية للبوابة الشرقية العربية في حرب كلفتها باهظة اقتصاديا وسياسيا.

عقد الثمانينيات الميلادية شهد كذلك حربا أهلية في جنوب اليمن، وانتهزت جماعة الإخوان المسلمين غزو السوفييت لأفغانستان وزجت بالآلاف من الشبان فيما سمي "الجهاد".

الأمن القومي العربي اهتز في الثاني من أغسطس 1990 عندما غزا العراق الكويت، فتعرض العرب لانقسام عمودي لم يحدث منذ تشكلت الدول الوطنية الحديثة، ذلك الحدث سمح للإخوان المسلمين التسلل أكثر عبر ذلك الشرخ العربي، حتى ظهر تنظيم القاعدة في شبه جزيرة العرب منتهزا ضعف الدولة اليمنية بعد حرب صيف 1994.

وامتدادا لما كان في صعود الراديكالية، شهدت الجزائر عشرية دموية كانت تؤكد ما تعانيه الدول العربية، في مصر واليمن ولبنان والسودان، فظاهرة الإرهاب توسعت وأصبحت خطرا مهددا لكيانات الدول، وزاد عدم مواجهة تيار الإسلام السياسي من سطوة التنظيمات، ففيما كان حزب الله في جنوب لبنان تتمدد سلطته، كان تنظيم القاعدة في اليمن والصومال والسودان يحصل على مزيد من الوجود غير الشرعي منتهزا ضعف الدول الوطنية.

وتحولت ظاهرة الإرهاب لخطر داهم يتربص بضعف الدول الوطنية وبمناطق الفراغ ليبسط فيها وجوده، وظلت جهود مكافحة الإرهاب من دون أن تحقق نتائج ملموسة، خاصة أن الأمن القومي العربي تعرض لأقوى اهتزاز في التاريخ العربي إطلاقا، وذلك في الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وبسقوط النظام في بغداد حدث أكبر فراغ ملأته التنظيمات الإرهابية بشقيها السنية والشيعية.

واتسعت في المقابل الخلافات الثنائية العربية نتيجة التدخلات الخارجية سواء الدولية أو الإقليمية، فالعالم العربي بات متاحا وساحة مفتوحة بعد ضعف الدولة الوطنية وترهلاتها، هذه الحالة كانت فرصة مواتية لتنطلق موجة استهدفت تغيير الأنظمة العربية في عشرية "الربيع العربي" التي كبدت المنطقة خسائر اقتصادية بلغت كلفتها في التقديرات المالية ترليون دولار أميركي.

وبلغ تمدد النفوذ الإيراني حدا بعيدا، بعد أن أصبحت العواصم بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء تحت السيطرة الإيرانية، مما يعني أن هدما قد حصل في الأمن العربي، بالإضافة لنشر القواعد العسكرية التركية في قطر والصومال، هذا ما آلت إليه حالة الأمن العربي من هتك للنسيج القومي لعبت فيه التيارات الراديكالية الدور المتقدم، يضاف إلى ذلك البيروقراطية وعدم التحديث الوطني.

يتبع..