لن يمر النزاع في أوكرانيا على الكرة الأرضية مرور الكرام.
كثيرة هي المقاييس والقواعد التي ستنقلب رأسا على عقب.. وأكثر منها الوقائع التي ستحددها مجريات النزاع، والتي ستنعكس على استقرار البشر، سواء في فقرهم أو في غناهم وعلى امتداد الكرة الأرضية.
ففي حين يصعب التكهن بمجريات الأحداث التي ستفرزها التطورات، ومدى تأثيرها على الدول وفق تصنيف موقعها وانتماءاتها بين عالم أول أو ثانٍ أو ثالث، تبقى الأسئلة مفتوحة على احتمالات غالبيتها مرعبة، لجهة الأمان الاقتصادي والمعيشي.
والسؤال الأساس يبقى: هل تتحول الكرة الأرضية إلى عالم ثالث، إذا ما تطور النزاع، ولم يعد يقتصر على رقعته الحالية، ليشمل كل مكان، حيث احتمال اعتماد الدول القوية على قوتها لتوسيع نفوذها على حساب جيرانها الأضعف، في ظل عجز المجتمع الدولي عن الوصول إلى وسيلة تضمن وقف القتال وتعيد المتنازعين إلى حوار يسفر عن تسويات تنهي خطر نشوب حرب عالمية ثالثة؟؟
أم أن الدول التي تتمتع بحد أدنى من الاستقرار وتملك مقومات المواجهة من خلال مؤسساتها ستبقى قادرة على مواجهة الأزمات الناتجة عن هذا النزاع وتحديد حجم الخسائر من خلال خطط بديلة؟؟
ماذا عن العالم الثالث؟؟ وتحديدا الدول المنكوبة في الشرق الأوسط وإفريقيا؟؟
هذا ما يوضحه جيلبير أنغبو، رئيس الصندوق الدولي للتنمية الزراعية.
وإذ يشير في بيان له، إلى تردد تأثير هذا النزاع عبر القارات، يؤكد ارتباطه بالجوع.
فالمعروف أن أوكرانيا هي التي تمد مناطق واسعة بالمحاصيل الأساسية، مثل القمح والذرة وزيت الطعام، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية وانتشار الجوع، لا سيما وأن 40 بالمئة من صادرات القمح والذرة الأوكرانية تذهب إلى الشرق الأوسط وإفريقيا، وهي مناطق تعاني بالفعل من مشاكل الجوع. وقد يؤدي نقص الغذاء أو زيادة الأسعار فيها إلى تأجج الاضطرابات الاجتماعية.
في الأساس، توضح الأرقام أن شخصا من كل 10 أشخاص في العالم لا يملك ما يكفيه من الطعام. كما تشير دراسات عديدة أن محاصيل الأرض لا تكفي البشر، وما يزيد وطأة هذا الواقع يبقى سوء التوزيع بين العالم الأول والعوالم الباقية، وتحديدا العالم الثالث، حيث يكافح المرء لإطعام عائلته.
عدا الغذاء، يبدو أن الطاقة هي أيضا من ضحايا النزاع. فقد لامس سعر برميل النفط ارتفاعا قياسيا، مقتربا من أعلى مستوى له على الإطلاق. أما الغاز، فحدث ولا حرج..
وبالطبع، لا بد أن يتأثر العالمان الأول والثاني بالأزمة الناتجة عن النزاع، وتحديدا الدول التي تحتاج قمحا وغازا ونفطا، وتملك مبدئيا ثمنه من دون عقبات تذكر، إلا أن ارتفاع الأسعار وكذلك العقوبات المفترض أن تعرقل بيع هاتين المادتين ونقلهما إلى حيث الشاري، يبقيان عاملان أساسيان من عوامل التأثير السلبية.
وفي حين تظهر هذه الأزمة حاجة الدول إلى العمل لتعزيز الأمن الغذائي الذاتي والاستقرار المعيشي وتوفير وسائل الطاقة البديلة، ربما تسبق التطورات الجهود التي سوف تبذل لهذه الغاية.
أما في العالم الثالث، فالويلات والكوارث ستسبق مساعي الحلول، وسوف تبقى حتى بعد انتهاء الأزمة. فالمتحكمون بدول هذا العالم يعتبرون التخطيط ترفا لا لزوم له. بالتالي هم لا يخططون في الأصل، لمواجهة الأزمات حتى الصغيرة والمحلية منها، ولا قدرة لهم، مثلا، على الاستثمار في مشاريع زراعية مشتركة مع محيطهم، ومؤسساتهم الرسمية لا تملك فوائض مالية ضخمة، وان توفرت لدى بلدانهم مواد أولية صالحة للاستثمار.
فالواضح أن دول العالم الثالث، ولأسباب عدة، مسؤولة عنها القوى التي تسيطر على اقتصاد العالم المتواطئة غالبا مع حكامها، لا قدرة لها إلا على الاستهلاك. وهي بغالبيتها تعاني، سواء بسبب انتشار الحروب، أو القضاء على مواردها التنمويّة الرئيسيّة وقلّة الموارد الغذائيّة ومُقوّماتها، وشدّة الفقر، وسوء توزيع الموارد بين أفراد المجتمع الواحد، وانقسام المجتمعات في هذه الدول إلى طبقتين بسبب انتشار الفساد: طبقة غنية تأخذ النّسبة الكبيرة من خيرات البلاد، وطبقة الفقراء والمعدومين غير القادرين على تأمين حاجاتهم الأساسيّة.
وتغيير هذه المعادلات لا يمكن أن يتم تحت وطأة الصدمة والظروف الطارئة الاستثنائية. يحتاج أكثر من ذلك مما ليس متوفرا.
لكن.. ماذا لو أن كل المقاييس والقواعد التي عهدناها منذ تشكيل العالم الجديد بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، لم تعد مجدية؟؟ ماذا لو أدى النزاع إلى حرب عالمية ثالثة مع فلتان وفوضى شاملتين؟؟ هل تتحول الكرة الأرضية مع مثل هذا الاحتمال إلى عالم ثالث تحكمه قواعد العالم الثالث؟؟
ربما لا لزوم لمثل هذا التشاؤم.. لكن الواضح أن صلاحية ما كنا عليه قد نفذت.. ونحن ومن سيرث الأرض بعدنا، نقف اليوم بمواجهة عالم جديد ونظام دولي جديد في طور التأسيس، وبمواصفات لم يتبين خيطها الأبيض من خيطها الأسود..