منذ انهيار الاتحاد السوفييتي قبل 32 عاما، والغرب بقيادة الولايات المتحدة يخشى صعود الصين، ومنافستها إياه اقتصاديا، بينما أهمل روسيا، متوهما بأنها لم تعد تشكل خطرا عليه بعد تفكك الإمبراطورية السوفييتية وزوال أيديولوجيتها الشيوعية.

غير أن خطل هذا التوجه الغربي أصبح جليا بمرور الزمن، واتضح في السنوات الأخيرة أن روسيا أكثر خطرا من الصين على الدول الغربية، ليس لإمكاناتها الاقتصادية والعلمية، ولا لقدراتها التنافسية في مجال الصناعات الثقيلة أو الخفيفة، بل لترسانتها العسكرية المتطورة، المقرونة بطموحاتٍ إمبراطورية لدى قادتها وأفراد نخبتها الحاكمة، وكثيرون من هؤلاء ينظرون إلى الماضي، ساعين لإعادة أمجاده، بدلا من التطلع إلى صنع مستقبل زاهر لشعبهم وبلدهم.

والتعلق بالماضي مشكلة ثقافية معقدة تعاني منها مجاميع معينة في شعوب عديدة. هناك، مثلا، مجموعة متنفذة في إيران تعتقد بأن الفرس يستحقون أن يقودوا دولة عظمى تكون بمصاف الولايات المتحدة والصين وألمانيا واليابان، والسبب الكامن وراء هذا التفكير هو أن الفرس كانت لديهم حضارة قديمة سبقت قيام العديد من الدول الكبرى الحالية. وبسبب هذا الطموح، أو العقدة، عند مجموعة متحكمة، عانى الشعب الإيراني والشعوب المجاورة له على مر السنين من الحروب والاضطرابات والانقلابات والفقر الناتج عنها، دون أن تحقق تلك النخب الحالمة أيَّ مجد جديد.
اليابانيون واليونانيون والإيطاليون والألمان والترك هم أيضا عانوا من وجود مجاميع بينهم تحمل هذا الطموح أو العقدة في فترات مختلفة، وقد تسببت تلك المجاميع عندما وصلت إلى السلطة في إشعال حروب مدمرة من خلال غزو الدول المجاورة أو التدخل في شؤونها، الأمر الذي قاد إلى إحداث دمار واسع فيها، وما زال هناك بينهم من يعاني من أوهام العظمة وحتمية التفوق.

هذا الشعور بأحقية التفوق والزعامة والتحكم في الدول والشعوب الأخرى، يعوق التقدم في أي مجتمع، لأنه مبني على أوهام، والأوهام لا يمكن أن تقود إلى نجاح. الواقعية هي الأساس الصلب للتقدم في جميع مناحي الحياة، تماما كما أن التشخيص الصحيح للمرض يؤدي إلى إيجاد العلاج الناجع. ولو لم يتمكن الألمان واليابانيون والإيطاليون، أو المجاميع المتنفذة فيهم، من التحرر من الأوهام في النصف الثاني من القرن العشرين، بعد هزيمة البلدان الثلاثة في الحرب العالمية الثانية، لما نجحوا في الصعود والتنافس والتفوق العلمي والصناعي والاقتصادي في العالم المعاصر.

الصينيون اتسموا بالحكمة والواقعية، وإن كانوا هم الذين اكتشفوا البارود الذي كان سببا في تطور أساليب الحروب الفتاكة، لكن ذلك كان اكتشافا علميا بحتا، ونتيجة لهذه العقلانية والبراغماتية، سلك الصينيون طريق التنمية الاقتصادية للقضاء على الفقر أولا، وتعزيز القدرة على التنافس والتفوق على الشعوب الأخرى، ولكن دون أن يجعلوا من التفوق في حد ذاته هدفا، علما أن الحضارة الصينية هي من أعرق الحضارات البشرية.

الشعوب الغربية سبقت شعوب العالم إلى السعي إلى التنمية الاقتصادية وجعلها محور الحياة، وقد طوروا النظم الديمقراطية لأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى، إذ أدركوا أن المناخ الأفضل لنمو الثروة هو سيادة أجواء الحرية والقانون على الجميع، وانخراط رجال الأعمال والمستثمرين في تدبير شؤون المجتمع المعاشية، لأنهم الأقدر على ذلك من الحكومة، ولأن نجاحهم سوف يعزز من القدرات المالية للدولة ويقلص الأعباء الواقعة عليها، إضافة إلى زيادة التفاعل بين أفراد المجتمع والسعي نحو الإبداع القائم على التنافس وفق القانون.

وبناء على ذلك، سمحت البلدان الرأسمالية لأصحاب رؤوس الأموال ورجال الأعمال بإبداء الرأي والمشاركة في شؤون الحكم والدولة، بل إن دافعي الضرائب في أميركا امتنعوا في القرن الثامن عشر عن دفع الضرائب، مطالبين بريطانيا التي كانت تحكمهم، بأن يشاركوا في إدارة البلد، رافعين شعار "لا ضرائب دون تمثيل (في السلطة)"، بل إن أحد قادتهم، وهو المحامي جيمس أوتيس، رفع شعار (فرض الضرائب دون المشاركة في الحكم طغيان). وفي النهاية قادت تلك الحركة إلى استقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا.

كان الغربيون يخشون التفوق الاقتصادي الذي يمكن أن تحققه الصين على حساب الدول الغربية، لذلك تشددوا في تعاملهم معها، رغم أن التفوق الاقتصادي أمر مشروع، إن حصل عبر بذل الجهد وتقديم المفيد وتلبية الحاجات الأساسية للمجتمع. وفي زحمة التنافس مع الصين، نسي الغربيون روسيا، أو أهملوها، وظنوا أنها لم تعد قادرة على التأثير على شؤونهم بالقدر الذي كانت عليه سابقا، خصوصا أنها دولة ريعية بنسبة 65% من مواردها المالية، واكتفوا بالاستفادة من مواردها الطبيعية، وظنوا أن النخبة الروسية الحاكمة ستقتنع بالمال الوفير الذي تولده عبر تصدير الطاقة.

لكن الروس، خصوصا بعد مجيء فلاديمير بوتن إلى السلطة عام 1999، عندما عينه الرئيس الراحل بوريس يلتسن رئيسا للوزراء ثم تنازل له لاحقا عن رئاسة الدولة، لم ينسجموا مع وضعهم الجديد كدولة متوسطة القدرات والثروة، ولم تعد فاعلة على المستوى الدولي كما كانت قبل عام 1991، فاعتقدوا أن بإمكانهم، عبر ما بقي من نفوذهم الإقليمي السابق، مدعوما بقدراتهم العسكرية الهائلة، أن يعيدوا لروسيا دورها السابق كدولة عظمى، تنافس الولايات المتحدة والصين. وهذا الطموح يشغل بال القادة فحسب، بينما الشعوب تسعى إلى الأمن والرخاء والتقدم.

استغل الزعماء الروس التركيز الغربي على الصين، فطوروا إمكاناتهم الاقتصادية، عبر تصدير الموارد الطبيعية، وتشييد الخطوط الناقلة للغاز الروسي إلى أوروبا، لاسيما مشروعي نورد ستريم 1 و2، وواصلوا تحديث قدراتهم العسكرية التي ورثوها من الإمبراطورية السوفييتية. لكنهم توهموا بأن الهيمنة يمكن أن تتحقق عسكريا، وهذا الأمر لم يعد متاحا في هذا العصر الذي تعددت فيه مراكز القوى والثروة في العالم، وأصبح التقدم الاقتصادي والإبداع العملي أساسييْن في خلق الثروة وتوسيع النفوذ ثم بسط الهيمنة.

وبالمقارنة، لم يشكّل الصينيون تهديدا عسكريا للعالم، بل ظلوا يعملون ضمن حدودهم، ولم يسعوا حتى لضم تايوان إلى الصين، علما أنها جزء تاريخي منها، باعتراف التايوانيين أنفسهم، بل تعاملوا بواقعية مع خيار شعبها باختيار نظام سياسي واقتصادي مختلف عن البر الصيني، واحترموا علاقاتها الخاصة مع الولايات المتحدة. وسبب هذه العقلانية الصينية هي أن الزعماء الصينيين يبرزون بوسائل شبه ديمقراطية عبر التدرج الحزبي، الذي يفضل دائما العقلانيين الساعين لخدمة الشعب على الحالمين الساعين لتحقيق طموحات شخصية، إضافة إلى انعدام الفساد كليا في النظام الصيني، الأمر الذي مكَّن الصين من تحقيق هذا الصعود الصاروخي في العالم، بينما نخر الفساد روسيا وأضعفها وجعلها دولة شبه ريعية.
في عام 1991، تفكك الاتحاد السوفييتي وبرز في روسيا زعيم ديمقراطي براغماتي، هو بوريس يلتسِن، الذي قاد الثورة على النظام القديم، وكان بإمكان الدول الغربية أن تستغل الفرصة، وتساعد روسيا على تطوير نظام ديمقراطي حقيقي، وترعى النخب الديمقراطية فيها، التي كانت تسعى للخلاص من الدكتاتورية، لكنها، بدلا من ذلك، سعت إلى نزع سلاح أوكرانيا وكازاخستان وبيلاروسيا النووي، ودفعِها إلى توقيع معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، مقابل تقديم ضمانات لها في معاهدة بودابست لعام 1994، بأنها ستدافع عن سيادتها واستقلالها إن تعرضت لتهديد، الأمر الذي عزز موقف روسيا وأبقاها متفوقة عليها عسكريا.

لقد سعى الرئيس بوتِن بخطى حثيثة إلى التوسع والهيمنة على دول الاتحاد السوفييتي السابق، فقضم أجزاء من جورجيا وأوكرانيا، ونصَّب نظاما مواليا لروسيا في بيلاروسيا، والآن يطوق أوكرانيا في محاولة لإرغامها على التخلي عن حقوقها السيادية في الانضمام إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، لكن هذه الضغوط لا تبدو ناجحة، إذ وقّع الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي في 28 فبراير الماضي طلبا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، في وقت تحاصر القوات الروسية بلده من كل حدب وصوب. وهذا دليل واضح على إصرار الأوكرانيين على التقارب مع أوروبا، والابتعاد عن روسيا.

الرئيس بوتن فشل حتى الآن في مساعيه للإطاحة بالنظام السياسي الأوكراني، إذ أبدى الأوكرانيون مقاومة شرسة للجيش الروسي، خصوصا مع حصولهم على مساعدات عينية ومالية وعسكرية ودبلوماسية من الدول الغربية، ولم تفلح جهوده في إقناع الجيش الأوكراني بالانقلاب على النظام.

وفي الوقت نفسه، فإن العقوبات الغربية بدأت تحاصر روسيا وتحد من قدراتها الاقتصادية والعسكرية على مواصلة الحرب، لذلك اضطر بوتن إلى التهديد باستخدام السلاح النووي، وهذا التهديد غير المسبوق، يشير إلى الهلع الروسي من الهزيمة ومحاولة تحقيق قدر من النجاح للقيادة الروسية كي تبرر لشعبها إقدامها على هذه المغامرة، خصوصا أن الشعب الروسي ومعه العالم كله، يعلم بأن الأمن القومي الروسي غير مهدد، وأن روسيا دولة نووية وقوية عسكريا ولا يمكن أن تهددها دول أضعف منها، وهي التي سعت إلى الانضمام إلى حلف الناتو خوفا من تهديد روسيا لها.

الموقف الصيني يبدو مساندا لروسيا ظاهريا، لكن الحقيقة مختلفة. فالصين تحاول استثمار الأزمة الروسية-الأوكرانية للضغط على الولايات المتحدة وأوروبا من أجل تحسين العلاقات وحل الخلافات معهما، وفي الوقت نفسه، الاستفادة من اضطرار روسيا للتعاون معها. إضافة إلى ذلك، فإن الصين تخشى العقلية العسكرية التوسعية للقادة الروس، والتي قد تنقلب ضدها مستقبلا، لاسيما وأنها مجاورة لها.

التدخل الروسي في أوكرانيا نبَّه الغربيين إلى خطورة روسيا على الأمن العالمي، وإمكانية التعاون مع الصين، التي لا تطمح للاصطدام بالولايات المتحدة أو أوروبا، ولا إلى إضعافهما اقتصاديا أو عسكريا، بل تسعى للتنمية الاقتصادية وزيادة حجم التبادل التجاري معهما فحسب. لقد أخطأ الغربيون عندما أهملوا الأخطار التي تشكلها الأحلام الإمبراطورية الروسية، فهل ينجحون بعد انفجار الموقف في التقارب مع الصين ومحاصرة روسيا وإجبار قادتها على التراجع عن أحلام التوسع والهيمنة، لاسيما أن هذا الهدف مشترك بين الصين وأوروبا وأميركا؟.

يبدو أن هذا الخيار قائم، على الأمد المتوسط، وأن احتمال التعاون ممكن، بل أصبح الآن ضروريا، في ظل أزمة قد تتطور إلى حرب عالمية لا تبقي ولا تذر، خصوصا إذا أقدم بوتن على تنفيذ تهديده باستخدام الأسلحة النووية، وهو خيار مستبعد حاليا، لكن احتمال الهزيمة في أوكرانيا قد يدفعه إلى التهور لحفظ ماء الوجه، وهذا ما يقلق العالم أجمع.