٦ ـ  فاكهة العزلة

التضحية بواقع العلاقة، على طريقة أهل الرحيل، ليس مجرد عزلة. ليس مجرد انقطاع طوعي عن نعيم الحضور في وسط اجتماعي. ليس مجرد قبول لتوحّد. ولكنه خيار عصيّ لا ترتضيه إلّا تلك القلّة التي اصطفتها الأقدار لاعتناق دين قضيّة. لاعتناق دين رسالة. لا يكفي أن نقول أن هذا النموذج مسكون بإيمان. لا يكفي أن نردّد أن طبيعة الأشياء هي التي قضت بألّا ينقطع الانسان بلا سبب، بلا ألم، بلا ألم جسيم، لأن التجربة الإنسانية هي التي كشفت عن مدى الهول الذي يسكن الملّة التي اختارت المنافي وطناً.

فمُريد الخلوة لا يتزهّد في خلوته مجّاناً. فهو اخترع لنفسه دمية تسلّيه في محنة وجوده منذ زمن بعيد مضى، بدليل تعاطيه لفنّ المشاهدة. مشاهدة تترصّد المشهد. المشهد لا في مفهومه الحرفيّ، الطبيعيّ، ولكن في مفهومه الروحيّ، حيث يستجلي الواقع الغيبيّ، مستعيناً بفطنة الحدس في اقتناص الرؤيا، إلى جانب استخدامه لعدسة البصر في استطلاع الرؤى.

وهو لا يفعله تلبيةً لنداء هوى، ولكن استجابةً لاحتراف إدمان. إدمان المشاهدة، والتفرّغ لاستنطاق الغيوب، عملاً بعمل مَن لا عمل له. عمل مَن اضطرّته البطالة لأن يخترع لنفسه دمية، لتسلّيه في محنته المزدوجة: محنة اغترابٍ عن عالم العلاقة، ومحنة بقائه قيد الوجود. هذا التبتّل المفروض بحرف الإنقطاع الديمومي، يسمّى في معجم الحكمة تأمّلاً!

إنه كنز التأمّل، الذي نصّبه محفل الحكماء السبعة، ناطقاً انتدبته الأقدار كي يتكلّم بلسان الحقيقة.

ولكن تهيئة المناخ، لتوليد الجنين، يستدعي ممارسة تقنيات أخرى، علّ أوّلها قمع طاغية إسمه الحسّ، لاستجلاء الفسحة، المكرّسة لاستجواب جناب الحدس. وهو ما يجود به ما صار في حياة محترفي الأسفار طبيعةً ثانية، كما الحال مع الصوم. الصوم بالطبع ليس على الطعوم وحسب، ولكن الصيام عن الكلام أيضاً، وعن كل ما يمكن أن يدنّس. ليس ما يدنّس البدن وحده بالطبع، ولكن ما يمكن أن يدنّس الروح، لأن الرهان يبقى على العفاف. العفاف في أبعاده القصوى. ممارسة عفويّة تتحوّل بحكم الإنضباط عادةً تلقائية تستوي في طقس صلاة، تحقيقاً لشفافيّة الإحساس. فبدون صفاء لن يتململ الجنين، ولن تكتمل فصول الشَرَك لاقتناص الوحي. والنبوّة رهينة نزيف الروح، وشطحة الوجود تبقى بلا جدوى إن لم تبعث الجنين من صميم العدم.

فالنبوّة مكافأة على تضحية.

فكلّ من زهد في الدنيا، وتخلّى عن الوجود، كوفيء بنيل الخلود.

ففي واقعنا الدنيوي يحيا أنبياء نعلمهم، ولكن الأغلبية هم الأنبياء الذين لا نعلمهم!