يكمن في جذر الصراع الروسي-الأوكراني غير المتكافئ عسكرياً فهمان مختلفان لمعنى الأمن القومي والمصلحة الوطنية.
يستند الفهم الأول الذي يقدمه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على تفاعل التاريخ السياسي والوقائع الجيوبوليتكية في تحديد مصالح الأمن القومي الروسي، مقابل فهم ثان أوكراني يقوم على السيادة بمعناها التقليدي المُشرعن في إطار القانون الدولي الذي يمنح الدول حق اتخاذ قرارات سيادية بخصوص اختيار حلفائها.
تشكل الفهم الأول على أساس تجربة روسيا كزعيمة للاتحاد السوفياتي السابق في غضون صراع الحرب الباردة الذي خاضه الأخير كقائد للمعسكر الشرقي الشيوعي ضد المعسكر الغربي الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.
في أثناء هذه الحرب الباردة التي استمرت نحو أربعة عقود من خمسينات إلى تسعينات القرن العشرين، برز مصطلح التطويق (encirclement) كاستراتيجية استخدمها الطرفان لاستنزاف الطرف الآخر وهزيمته تدريجياً، من دون الدخول في صراع عسكري مباشر معه. عنى المصطلح حينها أن يطوق كل طرف بأقصى ما يستطيع الطرف الآخر بخصوم له يقيدون حركته ويستنزفونه. مثلاً إذا ظهرت دولة شيوعية في أفريقياً مدعومة من الاتحاد السوفياتي، فسيتركز السعي الغربي بتطويقها بأنظمة رأسمالية أو حليفة للغرب على نحو لا يسمح لهذه التجربة الشيوعية بالنجاح، والعكس بالعكس، إذ كان المعسكر الشرقي يسعى ايضاً لتطويق خصومه الغربيين أو حلفاء الغرب في قارات العالم المختلفة. كان حضور التطويق، بوصفه استراتيجية مواجهة بطيئة، كمصدر قلق في التفكير السياسي السوفياتي أشد منه في نظيره الأميركي بسبب تمتع الولايات المتحدة بميزة جغرافية لم تتوفر للاتحاد السوفياتي، وهي أنها تقع في بقعة بعيدة ومنعزلة من الكرة الأرضية (قارة أميركا الشمالية) ومحمية طبيعياً بحيث لا يمكن تطويقها. فمن شرقها وغربها تحيط بها المياه عبر محيطين هائلين: المحيط الأطلسي شرقاً والمحيط الهادئ غرباً، فيما تحدها من الشمال دولة حليفة راسخة هي كنداً، وحدودها الجنوبية مع دولة ضعيفة وتابعة نسبياً، المكسيك، ليس لديها الرغبة أو القدرة على تهديد الولايات المتحدة، بل تحاول الاستفادة منها اقتصادياً قدر الإمكان. أقصى إمكانات التطويق السوفياتية لأميركا كانت جزئية في أفضل الأحوال وباءت بالفشل أخيراً. كان ذلك في سياق أزمة الصواريخ الكوبية في 1961 عندما نجح الاتحاد السوفياتي، بطلب من الرئيس الكوبي حينها فيديل كاسترو ومساعدته، بنشر صواريخ نووية في كوبا التي تبعد عن الساحل الأميركي بحدود مئة ميل. بعد ضغوط أميركية هائلة وصلت حد التهديد بشن حرب نووية، سحب الاتحاد السوفياتي صواريخه مقابل سحب أميركا صواريخ لها نشرتها في تركيا كجزء من استراتيجية التطويق التي كانت تمارسها ضد الاتحاد السوفياتي. على الجانب الآخر، كانت الولايات المتحدة تسعى، بقدر أكبر من النجاح، لتطويق الاتحاد السوفياتي وحلفائه في أوروبا الشرقية عبر حلف الناتو، المتشكل في 1949. في نهاية الأمر، كان الأكثر تأثيراً من التطويق الاستراتيجي للخصم هو الإنهاك الاقتصادي للمعسكر الشرقي عبر سباق تسلح مُكلف استطاعت الولايات المتحدة تحمله اقتصادياً، فيما لم يستطع الاتحاد السوفياتي ذلك وصولاً إلى تفكك هذا الأخير في 1991 وانتهاء الحرب الباردة.
بعد نهاية هذه الحرب تجاوز الغرب مفهوم التطويق، بمخاوفه ووقائعه التنافسية وكُلَفِهُ المُرهقة، فيما بقي حاضراً بقوة في روسيا ما بعد السوفياتية، وعلى الأخص في عهد الرئيس فلاديمير بوتين. لذلك وقفت روسيا منذ البداية ضد سعي الدول التي انسلخت من الاتحاد السوفياتي السابق دخولَ حلف الناتو، واعتبرت هذا الدخول تهديداً صريحاً لأمنها القومي بوصفه شكلاً جديداً من استراتيجية التطويق الغربية السابقة. اشتغل السعي الروسي لإفشال "التطويق الجديد" على جبهتين مختلفتين: الأولى هي إثارة الموضوع، وعلى مدى سنوات، على طاولة البحث مع دول أوروبا الغربية، في محاولة لإقناعها برفض طلبات الدول المجاورة لها، جورجيا وأوكرانيا تحديداً، للانضمام إلى حلف الناتو. أما الثانية فهي الضغط على هذه الدول المجاورة لها كي تمتنع عن تقديم هذه الطلبات والتأكيد المتواصل لها على أنه لا تهديد أمني روسي ضدها في حال توقفت عن سعيها الانضمام الى الحلف الغربي. لم ينجح السعي الروسي على الجبهتين، إذ واصلت دول الناتو الغربية دعمها لطلبي أوكرانيا وجورجيا وما تزال تتعاون معهما كي تستوفي هاتان الدولتان الشروط الكاملة للانضمام للحلف بشكل نهائي. تتضمن هذه الشروط إصلاحات مؤسساتية ترتبط بمكافحة الفساد وتحقيق الشفافية وترسيخ الديموقراطية واقتصاد السوق وغيرها المتصلة بصناعة نظام سياسي ديموقراطي على الطراز الغربي. تتطلب هذه الإصلاحات سنوات من الجهد المركز والمنظم الذي شرع فيه البلدان.
على الجانب الآخر، ثمة رؤية مختلفة للأمن القومي لدى أوكرانيا محركة بمخاوفها من خطر تغول روسي مستقبلي تحتاج هي أن تتعاطى معه استباقياً عبر الانضمام لحلف الناتو. تستند هذه الرؤية على الحق القانوني والسيادي للدول بحماية أنفسها ما دامت إجراءات الحماية هذه لا تشكل تعدياً على الأمن القومي للدول الأخرى. من هنا كان ضم روسيا لشبه جزيرة القرم التابعة لأوكرانيا في 2014 ومن ثم دعمها لتمرد مسلح في مناطق لوغانسك ودونيتسك في شرق أوكرانيا بمحاذاة الحدود الروسية، تأكيداً لمخاوف أوكرانيا من روسيا ودافعاً اضافياً لها للمضي في الانضمام إلى الناتو. على هذا النحو، أدخلت أوكرانيا في دستورها في عام 2017 فقرة تتضمن الالتزام بالانضمام للناتو الأمر الذي أثار، بالمقابل، سخطاً وقلقاً روسيين، ظهرت نتائجهما اخيراً في عملية الاجتياح العسكري لأوكرانيا مؤخراً.
ليس ثمة آلية قانونية دولية تحسم اختلاف الرؤى بخصوص مصالح الأمن القومي للدول لأن هذه المصالح تقوم على تفسيرات وقناعات وليس وقائع ثابتة وصلبة. هذا من سوء حظ أوكرانيا، فعملياً انتصرت الرؤية الروسية على الأرض لأن روسيا هي البلد الأقوى في هذا النزاع. مع ذلك، يقف نص القانون الدولي إلى جانب أوكرانيا بخصوص منع التجاوز العسكري على سيادة دولة ما من جانب دولة أخرى. لكن لن ينفع نص القانون الدولي أوكرانيا كثيراً بهذا الصدد، لأن خصمها في هذا النزاع هو عضو دائم في مجلس الأمن الدولي ولديه حق النقض "الفيتو"، بمعنى استحالة إصدار الأمم المتحدة قرارات ملزمة وواجبة التطبيق بخصوص هذا النزاع، من دون قبول روسيا بهذه القرارات. الامتياز الوحيد الذي تتمتع به أوكرانيا هو وقوف الغرب إلى جانبها في نزاعها هذا من خلال استعداده فرض عقوبات اقتصادية على روسيا. لكن تستغرق مثل هذه العقوبات وقتا طويلاً كي تظهر نتائجها، ثم هناك الممانعة والبدائل الروسية المحتملة في أماكن أخرى، كالصين، وهو ما يمكن أن يجعل الانتظار الأوكراني لنتائج ايجابية طويلاً جداً.
دخل الطرفان، أوكرانيا وروسيا، في لعبة عض أصابع مؤلمة، من يصرخ فيها اولاً سيكون الخاسر، لكن يبدو ان هذه اللعبة ستكون طويلة الأمد ويحتاج متابعوها الكثير من الانتظار لسماع صرخة الخاسر التي لن تكون واضحة وعلنية، على الأغلب، عند إطلاقها.