لا شك أن التدخل العسكري الروسي لأوكرانيا حدثٌ جلل لم يشهد له العالم مثيلا منذ الحرب العالمية الثانية، وستكون له تأثيراتٌ سياسة واقتصادية وعسكرية خطيرة، وهو بالتأكيد لن يمر بسهولة، خصوصا بعد فرض الدول الغربية عقوباتٍ دوليةً قاسية على روسيا.

ولكن ماهي الأسباب الموضوعية، إن وجدت، التي دفعت الرئيس الروسي، فلاديمير بوتِن، الذي تمكن خلال سنوات حكمه الاثنتين وعشرين من إحداث تقدم سياسي ونمو اقتصادي وتماسك اجتماعي في روسيا، لأن يقْدِم على هذه المغامرة غيرِ المحسوبةِ النتائج؟

هل كان التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا متوقعا؟ أم أنه باغت العالم على حين غرة؟ ولماذا فشلت الدول الغربية في صده، علما أن عددا منها، خصوصا بريطانيا والولايات المتحدة، كانت تتوقع حدوثه، وقد عبرت وزيرة الخارجية البريطانية، ليز تروس، بصراحة قبل أسابيع بأن روسيا سوف تتدخل عسكريا في أوكرانيا، بينما سخر منها المسؤولون الروس، وسخَّفوا توقعاتها؟

لقد تعايشت روسيا مع أوكرانيا وباقي دول الاتحاد السوفيتي السابق، منذ انهيار المعسكر الشيوعي عام 1991، واعترفت باستقلالها وحدودها، الدولية، بل ووقعت معاهدة بودابست لعام 1994، إلى جانب الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والصين، لضمان سيادتها واستقلالها ووحدة أراضيها، مقابل أن تنضم إلى معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، إلى جانب كازاخستان وبيلاروسيا، وتتخلى عن ترسانتها النووية، الثالثة عالميا من حيث الحجم، بعد الولايات المتحدة وروسيا، إذ كانت هناك خشية من أن تحصل فيها كارثة نووية أخرى مماثلة لحادثة تشرنوبل عام 1986.

حصل هذا أثناء حكم الرئيس الديمقراطي الأول لروسيا الاتحادية، بوريس يلتسِن، الذي كان من أوائل الثائرين على الحكم الشمولي السوفيتي، بل هو الذي قاد الثورة ضده عام 1991. لقد سعى يلتسِن لأن يجعل روسيا دولةً طبيعية، يحكمها نظام ديمقراطي، وتتعايش مع دول العالم الأخرى، وتتفاعل معها سياسيا واقتصاديا وعلميا واستراتيجيا، خصوصا وأنها تمتلك مواردَ طبيعيةً هائلة، وقدراتٍ بشريةً خلاقة، ومساحةً جغرافيةً شاسعة، وموقعا استراتيجيا مميزا.

لكن خلفه فلاديمير بوتن، ضابط المخابرات الحالم بإمبراطورية روسية عظمى، تكون "مُهابةً" في العالم، ومهيمنةً على أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى، لم يكن منسجما مع روسيا الجديدة، بل كان يفكر بالماضي أكثر من المستقبل. وقد دفعه هذا الحلم لأن ينحى منحى استبداديا، فضيَّق على الحريات العامة، وقمع خصومه في الداخل، وبدأ بمضايقة الدول المحيطة بروسيا مثل جورجيا وبيلاروسيا وأوكرانيا.

لقد تمكن بوتن من أن يجعل بيلاروسيا دولة تابعة، إذ نصب فيها نظاما مواليا لروسيا، لكنه لم يفلح في أوكرانيا، التي اختار شعبها نظاما ديمقراطيا منسجما مع أوروبا الغربية.

وضمن هذا التوجه، سعت أوكرانيا في ظل رئاسة فولوديمير زيلينسكي، لأن تنضم إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، الأمر الذي أزعج بوتن ودفعه لأن يضعفها تدريجيا بقضم أجزاءٍ منها بحجج واهية. فقد غزا شبه جزيرة القرم عام 2014 وضمها إلى روسيا، وها هو الآن يحتل أجزاءً أخرى من أوكرانيا، ويعلنها جمهورياتٍ مستقلة، ويسعى لأن يطيح بنظامها الديمقراطي لينصب محله نظاما مواليا لروسيا، تماما مثلما فعل في بيلاروسيا.

لم تكن الحجج التي ساقتها روسيا لغزو أوكرانيا مبررةً سياسيا وعسكريا، وغير مقنعة على الإطلاق للرأي العام العالمي، ناهيك عن خصوم روسيا في أوروبا وأمريكا وآسيا. أكثر الحجج هزالةً، وأوسعها استخداما لتبرير الغزو، هي أن أوكرانيا تهدد الأمن القومي الروسي!

كيف يمكن العالم أن يقتنع أن أوكرانيا، المستقلة منذ 30 عاما فقط، والأقل سكّانا وثراءً وقدراتٍ عسكرية، تهدد الأمن القومي لدولة نووية قوية، كروسيا، تمتلك ثاني أكبر قوة عسكرية في العالم؟

ثم لماذا يتهدد الأمن القومي الروسي إن انضمت أوكرانيا إلى حلف الناتو، بينما تحيط بروسيا، أو تتشاط معها، دولٌ عديدة أعضاء في حلف الناتو، مثل بولندا وأستونيا ولاتفيا ولتوانيا وكرواتيا وسلوفينيا ورومانيا وبلغاريا وهنغاريا وألبانيا وتشيكيا، وكلها كانت، إما ضمن الاتحاد السوفيتي، أو ضمن المنظومة الشرقية وحلف وارشو بقيادة روسيا؟

ولو افترضنا أن أوكرانيا بقيت خارج حلف الناتو، فهل ستصبح روسيا في مأمن من هذا الحلف، الذي يضم في عضويته 30 دولة، ثلاثٌ منها دولٌ نوويةٌ كبرى، وأعضاء في مجلس الأمن الدولي، وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا؟ وهل سيكون الحلف ضعيفا أمام روسيا بوجود كل هذه الدول الأعضاء فيه، والمحيطة بروسيا أو قريبة منها؟ وهل سيتردد الحلف في مهاجمة روسيا إن شكلت خطرا عليه؟

وحتى لو لم تصبح أوكرانيا عضوا في حلف الناتو، وهي لم تفكر في الانضمام إليه إلا بعد أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014، فإن بإمكانها أن تعقد اتفاقياتٍ ثنائيةً مع دول أخرى لحماية أمنها وسيادتها، كما فعلت دولٌ كثيرة، دون أن تنضم لحلف الناتو. لذلك فإن حجة تهديد الأمن الروسي لا تصمد أمام الحقائق الناصعة. كما يجب ألا ننسى اتفاقية بودابست لعام 1994 تُلزِم روسيا، إلى جانب أمريكا وبريطانيا وفرنسا والصين، بحماية أوكرانيا، وإن تخلت روسيا عن تلك الاتفاقية، فإن بريطانيا وأمريكا وفرنسا لن تتخلى عنها على الأرجح. أما الصين، وإن لم تُدِن التدخل الروسي، فإنها لا يمكن أن تقره، ولكن، لأسباب سياسية آنية، لم تعارضه علنا.

حجةٌ أخرى تطلقها روسيا هي أن أوكرانيا تضطهد مواطنيها الروس! وهذه تهمة لا يوجد أي دليل عليها، فأوكرانيا دولة ديمقراطية، تتعامل مع مواطنيها وفق القانون، وهي منفتحة على العالم ويمكن وسائل الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان العالمية أن ترصد أي انتهاكات لحقوق الإنسان لو أنها حصلت فعلا.

الحجة الأخرى أن هناك علاقاتٍ ثقافيةً وتأريخيةً وقومية بين روسيا وأوكرانيا، وأن البَلَدين يجب أن يكونا منسجمين سياسيا واستراتيجيا وعسكريا! وهذا الانسجام تطالب به روسيا فقط، أما أوكرانيا فترى أن مكانها الطبيعي هو في الاتحاد الأوروبي، فمعظم سكانها يشعرون بأنهم أوروبيون منسجمون مع أوروبا الديمقراطية، بعيدا عن التوجهات الحالية للحكومة الروسية.

يبدو، أن تفكير النخبة الحاكمة في روسيا هو أنه، مازالت روسيا ترغب بوجود تقارب (ثقافي) مع أوكرانيا، فإن على الأوكرانيين أن يمتثلوا لهذه الرغبة، بغض النظر عن رأي غالبية الشعب أو حكومته المنتخبة. يبدو أن الرئيس بوتن لا يعترف فعليا بدولة أوكرانيا، إذ قال مؤخرا إنها دولةٌ مصطنعة!

الخطورة في التدخل الروسي في أوكرانيا هي أنها لم تعد دولة تسير في الفلك الروسي كما كانت سابقا، بل دولة مستقلة وعضو في الأمم المتحدة، لذلك فإن من حقها أن تتخذ قراراتٍ مستقلةً تخدم أمنها الوطني واقتصادها وعلاقاتِها الدولية، وأن المجتمع الدولي يساند هذا الحق، لذلك فإن روسيا ستتكبد أضرارا سياسية واقتصادية كبيرة نتيجة لهذه السياسة.

الواضح هو أن الرئيس بوتن يسعى لأن يعيد نفوذ روسيا لتحل محل الاتحاد السوفيتي السابق، ويعتقد بأن هناك فرصةً قائمة حاليا لإرغام أوكرانيا، كما أُرغِمت بيلاروسيا من قبلها، على أن تكون دولة تابعة لروسيا، مستغلا انشغال العالم بأزماته السياسية والاقتصادية والبيئية والصحية، والخلافات القائمة بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، والصين من جهة ثانية، بالإضافة إلى الخلافات الطبيعية بين الدول الغربية أنفسها، والانقسام السياسي الحاد في الولايات المتحدة بين اليمين المتطرف والتوجه الديمقراطي اللبرالي، الذي ترك أثره على حلف الناتو والتحالف الغربي بشكل عام، خصوصا في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، وتردد الإدارة الديمقراطية في استخدام القوة العسكرية، وميلها إلى الحلول الدبلوماسية، بديلا عن الحروب الباردة والساخنة، إضافة إلى الخلافات داخل الاتحاد الأوروبي، التي انتهت بخروج بريطانيا منه.

التدخل الروسي في أوكرانيا أيقظ الدول الغربية إزاء الخطر المحتمل لروسيا على أوروبا والعالم، وساهم في تلاحم المواقف الغربية، وتقريب وجهات النظر بينها، إذ لا يمكنها أن تتساهل مع التوجهات الروسية التي قد لا تتوقف عند أوكرانيا.

أهم ورقة تلعبها روسيا في وجه أوربا ودول العالم، هي أنها المنتج الأول للطاقة في العالم. ويعوِّل بوتن على حاجة أوروبا إلى استيراد الغاز الروسي، كونه منخفض الكلفة وسهل النقل، خصوصا بعد اكتمال بناء خط (نورد ستريم2) الناقل للغاز الروسي إلى ألمانيا، ويعتقد بأنها لا تستطيع التخلي عنه لعدم وجود بدائل مناسبة.

لكن هذا السلاح ذو حدين، فروسيا هي الأخرى تحتاج لأن تبيع غازها ونفطها إلى أوروبا، وفي خلاف ذلك فإنها ستواجه أزمة اقتصادية خانقة، خصوصا وأن 65% من الناتج المحلي الإجمالي الروسي يعتمد على تصدير المواد الأولية. صحيح أنها عقدت صفقة مع الصين لتصدير الطاقة إليها، لكن السوق الصينية لن تعوضها، في الأمد القريب على الأقل، عن الاستهلاك الأوروبي الواسع النطاق، وأن هناك حاجة لإنشاء خطوط جديدة لنقل الغاز إليها، الأمر الذي يستغرق وقتا طويلا.

ورغم الحاجة الألمانية للغاز الروسي، إلا أن حكومة المستشار أولاف شولتز، أعلنت عن إيقاف العمل بخط نورد ستريم2، احتجاجا على التدخل الروسي في أوكرانيا. ما يعني أن أوروبا لن تخضع للابتزاز، إذ لديها بدائل أخرى منها دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، خصوصا الجزائر التي كانت المجهز الثاني للغاز الطبيعي والغاز السائل لأوروبا بعد روسيا، وليبيا التي لديها موارد نفطية وغازية وإمكانيات كبيرة لإنتاجٍ أكبر من الغاز الطبيعي والسائل، وهي قريبة من أوروبا.

كما تمثل الدول الآسيوية، مثل كازخستان وأوزبكستان وقرغيزيا وتركمانستان وأذربيجان وتركيا، بدائل مهمة للغاز الطبيعي والغاز السائل، وهناك أيضا مصادر الغاز السائل في الولايات المتحدة وترينيداد وتوباغو ونيجيريا والنرويج وكندا، والغاز السائل لا يحتاج إلى أنابيب ناقلة، إذ يمكن نقله بالسفن والصهاريج.

لا شك أن المغامرة الروسية في أوكرانيا ستتسبب في إحداث إرباك اقتصادي عالمي، وإعادة الاصطفافات الدولية، ورفع أسعار النفط والغاز مؤقتا، الأمر الذي ستنتفع منه دول الشرق الأوسط، ولكن الأضرار الأخرى الناتجة عنها خطيرة على الأمن العالمي، خصوصا إذا تطورت الحرب ودخلتها أطراف أخرى.

العقوبات الغربية الواسعة النطاق التي أعلنت عنها الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان وألمانيا وفرنسا ودول الاتحاد الأوروبي، سوف تلحق أضرارا هائلة وبعيدة المدى بالاقتصاد الروسي، لكنها لن تثني الرئيس بوتن عن السعي لتحقيق طموحه بإقامة امبراطورية عظمى. قد لا يكون هذا السعي موفقا، لأنه سيواجه مقاومة شعبية أوكرانية شرسة، ورفضا واستنكارا عالميا، من شأنه أن يضطر روسيا لتغيير سياستها، إن عاجلا أو آجلا، خصوصا مع اشتداد المعارضة الشعبية الروسية له.

المفكر الروسي، ديمتري موراتوف، مؤسس جريدة "نوفايا غازيتا (Novaya Gazeta) الروسية المستقلة، والحائز على جائزة نوبل للسلام، وصف الوضع في روسيا بكلمات بليغة وموجزة: "إن مستقبل روسيا قد سُلب منها في الرابع والعشرين من فبراير 2022)! فهل يا ترى، يساند الشعب الروسي توجه الرئيس بوتِن، الذي يستعدي دولا كثيرة، ويجلب على روسيا عقوباتٍ دوليةً ومصاعبَ اقتصادية ترهق كاهله؟