على مدى أشهر رددت إدارة بايدن أن التوصل إلى إعادة إحياء الاتفاق النووي أمر أكثر من ضروري لاستقرار المنطقة، متغافلة عن أنه إذا لم يتم التوصل إلى تفاهمات إقليمية بين أطراف معنية تقوم على أساس قواعد ومبادئ تنظم العلاقات بين الدول في الإقليم فإن ذلك الاتفاق لن يجعل المنطقة آمنة.
بل إن الرئيس الأميركي وللأسف جعل استعادة الاتفاقية هدفا رئيسيا للسياسة الخارجية، حيث تنظر إدارته إلى أن التوصل إلى اتفاق يقيد البرنامج النووي الإيراني باعتباره مفتاحا لاستقرار الشرق الأوسط، مما يسمح للولايات المتحدة بالتركيز على الصين وروسيا، وقد بدأت ملامح ذلك خلال هذه الساعات التي يحبس فيها العالم أنفاسه قبل حرب بدت محسومة على الحدود الروسية الأوكرانية.
هنا في واشنطن لا يستبعد مراقبون أن تبادر إدارة الرئيس الأميركي إلى التوقيع على اتفاق لا يحقق مطالب حلفائها الإقليميين، وذلك بهدف ضبط عدوانية إيران ومنع أذرعها من تهديد دول الجوار واستهداف أمن الملاحة وحركة تصدير النفط، مشيرين إلى أن واشنطن لا تخفي أن استراتيجيتها لا تقوم على ردع إيران وأنها في مقابل ذلك قد تعقد اتفاقيات ثنائية مع حلفائها لتمكينهم من وسائل دفاعية متطورة كحد أدنى، وهذا حسب رأيي سيكون بهدف رفع العتب عن نفسها.
على مدى أشهر تابعت هنا في واشنطن هذا الملف والدور الأميركي بشأن الاتفاق النووي وما طرأ من تحولات في صناعة السياسات الأميركية والتأثير السلبي لجملة تلك السياسات.
ويمكنني أن أقول إن إدارة بايدن رفعت سقف اشتراطات العودة للاتفاق النووي، واعتبرت عدم انصياع طهران والقبول باشتراطاتها ضربا من الخيال السياسي، إلا أن واشنطن وللأسف هي من تراجع ولجأ إلى تقديم محفزات مالية (الإفراج عن حسابات مجمدة لدى أطراف دولية وحسابات بالدولار)، وذلك تحفيزا لطهران على الانخراط الكلي في المحادثات، وهي من تبنى ذلك في مقاربة تعكس توافقا مع حلفائها الإقليميين، وبمعنى آخر فإن التغطي بعباءة العودة للاتفاق النووي مع إيران لن يتسع لاحتواء كل ما سبق من إخفاقات أميركية داخليا وخارجيا، فلماذا تصر إدارة بايدن على تجاهل الأخطاء؟
خلال هذه الساعات تمر محادثات فيينا بلحظة حاسمة، حيث قد تضطر أميركا لإعادة إحياء الاتفاق، وليس بتطويره لصعوبة ذلك، فالطرفان المعنيان بذلك أساسا يرغبان بالعودة إلى الاتفاق، ويعتقدان أن هذا الأمر أفضل من الذهاب إلى المجهول والدخول في مسار تصعيدي، ذلك أن غياب الاتفاق سيدفع إيران للعودة لتخصيب اليورانيوم بشكل تدريجي من حيث مستوى التخصيب، كما فعلت بعد الخروج الأميركي منه.
فقد انتقلت عملية التخصيب من مستوى لا يتعدى الـ3.75 بالمئة حسب الاتفاق، إلى مستوى العشرين بالمائة وثم إلى الستين بالمائة، الأمر الذي يفتح الباب أمام احتمال الذهاب لاحقا إلى رفع التخصيب إلى مستوى التسعين بالمائة مما يعني بلوغ "العتبة النووية"، أي قدرة إنتاج السلاح النووي في فترة زمنية محددة قد تكون سنة أو أكثر قليلا.
إن حدث هذا فسيكون الاتفاق المتوقع قد كافأ إيران بمنافع اقتصادية غير متناسبة في مقابل العودة إلى قيود نووية مؤقتة وضعيفة وقابلة لعكسها بسهولة، عوضا عن العودة إلى اتفاق قديم معيوب، توجب على واشنطن الإصرار على اتفاق جديد أقوى. وكل المؤشرات تجعل إدارة بايدن في وضع أكثر سوءا عبر تخفيف الضغط عن إيران بشكل غير حكيم، فقدمت جزرة بينما قللت من أهمية العصا في إستراتيجية ستنتج على ما يبدو نصف اتفاق سيؤجل أزمة نووية متفاقمة بدلا من حلها، كما سيمطر إيران بتخفيف للعقوبات ليجعل النظام أكثر جرأة ويساعده في برنامجه العسكري وفي تعزيز شبكات وكلائه الإرهابيين لشن هجمات مستقبلية، فإعادة إحياء اتفاق 2015 يعني أن القيود الأساسية على برنامج إيران للتخصيب النووي ستنتهي مجددا بشكل متدرج بحلول 2031.
لقد نجحت إيران وللأسف في إفراغ الاتفاق المتصور من بعض المنافع، وسنرى انتهاك القيود على أجهزة الطرد المركزي وإنتاج معدن اليورانيوم، وحتى فإن فترة خرق نووي أقل من ستة أشهر لن تعطي الولايات المتحدة وحلفاءها ما يكفي من الوقت إذا اختارت إيران تسريع برنامجها النووي.
الخلاصة وحتى انتظار الساعات المقبلة التي تشير معظم التحليلات إلى أنها ستحمل توقيع الاتفاق المنتظر، يمكنني القول إنه يجب على إدارة بايدن ألا تعود إلى الاتفاق النووي مع إيران، فهذا ليس الوقت المناسب لتسريع برنامج طهران النووي بأي شكل من الأشكال، بل على واشنطن تقوية حلفائها في المنطقة وإلا فأن إدارة بايدن ستكون أسوأ المفاوضين في العالم، لأنها مهدت الطريق لإيران للحصول على السلاح مقابل لا شيء، وهذا سيجعل المنطقة في قلق لا ينتهي.