3 ـ الموقف من الأيديولوجيا
في واقع الإنسان البرّي، الصحراوي تحديداً، فقط، تغترب الأيديولوجيا.
لماذا؟ ببساطة لأن واقع مناخ هذا الإنسان وحده واقع حريّة، بما هو واقع يعادي السلطة بالسليقة. والأيديولوجيا، كما تعلّمنا، هي وسيلة السلطة لاحتكار الحقيقة، لأن لا ضمان للاحتفاظ بالسلطة، بوصفها غنيمة، بدون اعتماد الأيديولوجيا كحجّة.
فالأيديولوجيا غير معنيّة بالواقع الإنساني في بُعده الحرفيّ، لأن رهانها دوماً هو: البُعد المفقود. فالخلاص، في منطق الأيديولوجيا، دوماً حلمٌ مؤجّل. دوماً أملٌ بعيد المنال. الخلاص دوماً فردوسٌ مفقود. مفقود، ولكنه دوماً موعود. فعلاقة صاحب السلطة برعيّته كعلاقة الطبيب بمريضه! الطبيب يجود على المريض بصنوف العقاقير لا ليحقق له الشفاء، ولكن لتسكين آلام مرضه، في وعدٍ دائم له بالشفاء، ليبقى الشفاء مجرد أمل، مجرد حلم مؤجّل. أي أنه خلاص منظر. فردوس مفقود عملياً، ولكنه موعود حلميّاً. والطبيب يراهن على هذا الوعد لكي لا يفقد مريضه، تماماً كما يراهن صاحب السلطة على ترياق الغيوب في تسويق حجّة الإحتكار، لضمان الاحتفاظ برهينته، ولكن واقع الحرية وحده يبطل مفعول هذا السحر.
فالإنسان البرّي، سيّما الانسان الصحراوي، كائن طبيعي. وأن يكون طبيعيّاً سوف يعني أنه من طينة مكتفية بنفسها، معتمدة على مواهبها، في تدبير علاقتها بواقع وجودها. فعصب الحياة الاجتماعية، الذي نسمّيه علاقة، يغترب في محيط نشاطها، مما يلحق، بما نخلع عليه لقب السلطة، ضرراً بالغاً، بل ضرراً مميتاً. وشهادة وفاة هذه الجنيّة هو ما يتباهى به إنسان البريّة، ويستخدمها كتعويذة براءة يمارس بموجبها الحرية. حرية قاسية بالطبع، لأنها حرية الأبعاد القصوى، حيث لا وجود لأوهام، لا سبيل للتعويل على أحلام، لا فرصة للرهان على تحقيق خلاص. حرية نستطيع أن نجرؤ فننعتها باصطلاحٍ فجيع فنقول أنها حرية عدميّة. والدليل؟ الدليل تترجمه لنا الجملة القاتلة التي تجري على لسان كل صحراويٍّ أصيل: «مييدّيياغز» الخالدة! ما معنى «ميدّيياغز؟» في واقع الأمر؟ ميدّيياغز تتغنّى بالحقيقة، لأنها تقطع الأمل في وجود أية حقيقة، خارج حرية البُعد الأقصى. ففي منطقها لا وجود لأمل من وراء أي عمل، لأن لا رهان على خلاص يأتي به الزمن، ولا على فردوسٍ يجود به وطن، ولا على إنسان هو بالسليقة باطل، بما هو سليل عدم، لأنه من عدمٍ أتى، وإلى عدمٍ يعود، فبأيّ معجزة تستطيع السلطة أن تجد لنفسها موقعاً، في واقع العدم هذا، كما ننعته في معجمنا نحن، في حين ينعته سليل الحرية في معجمه باسمٍ آخر يراه أهلاً لحمل وزر المفهوم، المختلف عن مفهومنا، برغم أن كلمة «حرية» هي التعبير المستخدم في الحالين؟
فالأيديولوجيا وباء حداثيّ، وسليل الصحراء نموذج ميثولوجيا، وليس له أن يستعير هوية أيديولوجيّة، ما لم يتنكّر لماهيّته الميثولوجيّة. فدين الميثولوجيا هو الحرية، بقدر ما دين الأيديولوجيا هو السلطة.