حين غيرت شركة فيسبوك، التي تملك منصة التواصل الأشهر بنفس الاسم مع تطبيق الرسائل مسنجر والآن أيضا إنستغرام وواتساب، اسمها إلى "ميتا" في أكتوبر العام الماضي لم يكن مجرد تغيير لاسم المجموعة. إنما دلالة على توجه جديد نحو تكنولوجيا "ميتافيرس" (Metaverse)، وترجمتها الحرفية "الكون الماورائي"، التي بدأت شركة فيسبوك الاستثمار فيها قبل سنوات قليلة واستحوذت على شركات تكنولوجية صغيرة تطور هذه التقنية.

كلمة ميتا، أصلها يوناني قديم وتعني "ما وراء شيء" أو بعده الخفي، كما نعرف من استخدامها في تعبيرات سابقة مثل "ميتافيزيقا"، أي ما وراء الطبيعة. ورغم أن المصطلحات التي بها الصفة المسبقة "ميتا" تبدو أكاديمية ومقتصرة على دوائر الباحثين والمثقفين، إلا أن ميتافيرس ليست كذلك. ذلك لأن الأجيال الجديدة المنكشفة على ألعاب الفيديو الإلكترونية يعرفون ذلك المصطلح حتى قبل إطلاقه. أما المولعون بروايات الخيال العلمي فقرأوا الوصف قبل ثلاثة عقود. ومنذ ذلك الوقت تقريبا تطورت تقنيات سابقة مهدت للميتافيرس.

من الواقعية المتخيلة (Virtual Reality) إلى الواقعية المجسمة (Augmented Reality) إلى الواقعية الممتدة (Extended Reality)، وصل الإبداع التكنولوجي إلى تقنية ميتافيرس. تلك التكنولوجيات التي بدأت مع ألعاب الفيديو لتطبق في مجالات أخرى من نشاطات الترفيه والتواصل، خاصة عبر الإنترنت. تختلف ميتافيرس عن كل هذه الابتكارات السابقة بأنها تجمعها معا. فالأولى أتاحت للفرد أن يمارس ألعاب الفيديو بشكل تخيلي، ثم بعد ذلك طورت تقنية 3D على أساسها للاستمتاع بالأفلام. ثم طورت التقنية التالية تعامل المجموعة في هذا الفضاء الخيالي، بحيث يصبح ممكنا لعدد من الأفراد التواصل في فضاء خيالي باستخدام رموزهم المتخيلة Avatar للعب والتواصل مع بعضهم. أما ميتافيرس فتعني تجميع كل تلك الخصائص في مجال افتراضي متكامل يتيح لمن يدخله اللعب والترفيه والتواصل وحتى العمل. هذا ما عبرت عنه رؤية شركات التكنولوجيا الكبرى مثل مايكروسوفت وفيسبوك وغيرها حين كشفت للعالم كيف يكون هذا الكون الماورائي العام الماضي.

لذا، لا غرابة في توقع البعض أنه خلال عامين أو ثلاثة ستتم كل الاجتماعات والمقابلات والندوات التي تجرى اليوم بتقنية كاميرا الفيديو 2D في فضاء الكون الماورائي هذا. وباستخدام منتجات ميتافيرس من نظارات افتراضية سيعمل كل الموظفين عن بعد باستخدام رموزهم وهم يشعرون تماما أنهم في غرفة أو مبنى واحد. وبدأت بالفعل الشركات الكبرى، مستفيدة من ابتكارات مطورين لديهم أو متعاقدين من شركات صغيرة، في طرح نشاطات بشرية عديدة في ذلك الكون الافتراضي من سيارات وعقارات وغيره – كلها عبارة عن عدة سطور من برامج كمبيوترية.

تطمح شركات التكنولوجيا أن يكون ميتافيرس أوسع انتشارا ولا يقتصر على الألعاب والترفيه، بل إن هناك توقعات في السوق أن يكون لهذا العالم الافتراض والكون الماورائي اقتصاده الخاص به. وهنا يأتي احتمال تكامل العملات المشفرة مع تلك التكنولوجيا الجديدة ليصبح هناك كون مواز تخيلي بعيد تماما عن الكون الذي نعيشه الآن.

ربما يبدو في ذلك التصور قدر من الشطط، لكن كم من الأفكار التي بدأت غريبة أصبحت واقعا ومكونا مهما في حياة البشر اليوم وتشكل جانبا مهما من الاقتصاد العالمي.

بعض التقليديين عاقبوا مجموعة ميتا/فيسبوك مؤخرا وقلصوا قيمتها السوقية من 900 مليار دولار إلى 700 مليار دولار بعمليات بيع كبيرة لأسهمها. لكن ذلك لم يثن مؤسس فيسبوك مارك زوكربيرغ عن خططه، وقال بوضوح إن الشركة مستمرة في الاستثمار في ميتافيرس والابتكارات الجديدة. وكان سبب هجوم المستثمرين على الشركة هو ما بدا من أن استثمارها نحو عشرة مليارات دولار العام الماضي في ميتافيرس اعتبر خصما أكثر منه إضافة، رغم أن وحدة الابتكار في الشركة حققت عائدات بنحو ثلاثة مليارات دولار فقط من بيع نظارات "كويست" المستخدمة في ميتافيرس.

صحيح أن كل شيء في أوله يبدو مغامرة، لكن استثمار شركات كبرى من مايكروسوفت إلى أمازون في التكنولوجيا الجديدة يجعل بعض المستثمرين من ذوي النظرة المستقبلية يقبلون على شراء أسهم الشركات التي لها علاقة بميتافيرس. ثم هناك حكمة تقليدية مستخلقة من تطور التكنولوجيا في العقود الأخيرة هي أن هذا القطاع يتطور بابتكار الجديد. وإذا أخذنا في الاعتبار احتمالات أن الاقتصاد التقليدي ربما وصل إلى قمة منحنى تطوره وأخذ في النزول، فإن ذلك يفتح المجال أمام قطاعات جديدة تحافظ على حيويته واستمراره في النمو والتوسع. وبما أن الرأسمالية قادرة دوما على تجديد نفسها، فإن تكنولوجيا ميتافيرس لديها آفاق نمو وتوسع خاصة إذا تكاملت مع العملات المشفرة وابتكارات تكنولوجية أخرى.

كثير منا سيتبع طريقة "لننتظر ونرى" أما البعض الحريص على ألا "يفوته القطار" فلن يتردد في الاستثمار في هذا المجال الجديد.