الوضع السياسي والاقتصادي المتردي الذي يعيشه لبنان في السنوات الأخيرة، تجاوز كونه مجرد مشغل يهم اللبنانيين وحدهم، بل تحول إلى ضرب من التحذير تطلقه جهات سياسية وفكرية عديدة في العالم العربي، للتنبيه إلى ضرورة تفادي الوضع الذي وصله لبنان من جهة ضعف الدولة وهيمنة المحاصصة الطائفية والارتهان للخارج.

ووراء التحذير من مخاطر الانحدار إلى "اللبننة"، دافعين أساسيين، الأول كامن في ما يعيشه لبنان حاليا من مشاكل اقتصادية واجتماعية وسياسية عويصة، يمكن اختصارها في ضعف الدولة أو غيابها وحلول قوى ميليشياوية ودينية محلها. الدافع الثاني هو أن الكثير من الأقطار العربية تعيش أوضاعا شبيهة، بتفاوت مستويات الخطورة، بما يعيشه لبنان، وأوجه الشبه مع الوضع اللبناني كامنة حتما في ضعف الدولة وسطوة الجماعات المسلحة والميليشيات.

الثابت أن الوضع اللبناني الراهن ليسَ وليد السنوات الأخيرة، بل هو نتيجة موضوعية لتضافر عوامل تاريخية وسياسية ودينية واجتماعية متداخلة، لكن ذلك لا يحجبُ حقيقية أن التردي الذي عرفه لبنان في السنوات الأخيرة عائد في جانب كبير منه إلى التناقض بين الطائفية والدولة. تزدهرُ المقولات الطائفية في زمن ضعف الدولة، فعندما تضعف الدولة ويضعف الانتماء الوطني تتقدمُ انتماءات فرعية (دينية ومذهبية وطائفية) لتحل محل الانتماء الوطني، وفي المثال اللبناني وجدت قوى داخلية وخارجية كثيرة في ما ترتب عن الحرب الأهلية اللبنانية (من 1975 إلى 1990) أرضية خصبة لتسربُ أفكارها وتفرض أيديولوجياتها. وجد حزب الله، ومن ورائه إيران، في النظام السياسي الذي اجترحه اتفاق الطائف (1989) فرصة لكي يحول وجود "الطائفة" في لبنان إلى طائفية مقيتة، وكان ذلك تحويل المواطنين إلى رعايا، وفي ذلك التحول أصبح لبنان يعيش وضعا غريبا تتعايش فيه دولتان: دولة لبنان المُثخنة بجراح الحرب ومشاكل الاقتصاد، ودويلة حزب الله التي تقتات من أزمات لبنان وتأبدها، وتستلهمُ أسباب بقاءها من أدبياتها الطائفية المتخلفة التي يجاهر فيها حزب الله بتقدم ولائه لإيران على انتماءه للبنان. عرف حزب الله نفسه في بيانه التأسيسي بالقول "إننا أبناء أمّة حزب الله التي نصر الله طليعتها في إيران، وأسست من جديد نواة دولة الإسلام المركزية في العالم. نلتزم بأوامر قيادة واحدة حكيمة عادلة تتمثل بالولي الفقيه الجامع للشرائط، وتتجسد حاضرا بالإمام المسدّد آية الله العظمى روح الله الموسوي الخميني دام ظله مفجر ثورة المسلمين وباعث نهضتهم المجيدة".

بعد نهاية الحرب الأهلية اللبنانية، باشر حزب الله بتعلة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وبدعم إيراني واضح، عملية التفاف دؤوبة على الدولة، و"نجح" في أن يقضم الكثير من صلاحيات الدولة اللبنانية، حيث استغل مسوغات المقاومة في الجنوب اللبناني وتحول إلى دويلة تمتلك جيشا وسلاحا ومقدرات مالية وأنشطة اقتصادية واجتماعية بالتوازي مع مقدرات الدولة وسلاحها الشرعي. بهذا المسار توصل حزب الله في ظرف سنوات إلى أن يأسر لبنان بأسره في شبكة معقدة من المحاصصة الطائفية، ويرهنه في مدار إيراني، ويضعف دولته بعد أن نافسها في شرعيتها وهيمنها على مجالها.

على ذلك فإن النظام الطائفي القائم في لبنان، باتفاق الطائف أولا وبوجود حزب الله ثانيا، قوض الدولة اللبنانية وحول المواطنين إلى رعايا يعرفون أنفسهم وفق انتماءهم الطائفي لا وفق ولائهم لوطنهم الجامع الضامن للتعدد.

اليوم وإذ يواجه لبنان مشاكل وأزمات عميقة، اقتصادية وسياسية واجتماعية، فإن تلك الأزمات البنيوية ليست سوى تعبيرات عن أزمة أعمق تكمنُ في ضعف الدولة وتفشي الطائفية والارتهان للخارج، والأكيد أن تفكيك هذا المشكل يبدأ بإعادة الاعتبار للدولة والتعامل مع الوجود الطائفي على أساس أنه عنصر إغناء وإثراء لا عنصر غلبة وتفوق، وتكريس سيادة لبنان على أرضه وعلى قراره بما يعني وقف رهنه للخارج. لكن الخطير في المثال اللبناني أنه تحول إلى مثال يستنسخ في أكثر قطر عربي، حيث يبدأ الخلل من الثقب نفسه، حيث نلحظُ مثلا أن الاحتلال الأميركي للعراق في العام 2003 يسّر انتقال العراق من زمن الدولة إلى زمن الطائفة، وحول التعدد العراقي إلى غلبة طائفية شيعية، واستعاض عن وحدة الجيش العراقي بشيوع سطوة الميليشيات بما تعنيه من سلاح سائب وقتل على الهوية، وهنا أصبح المواطن العراقي يلوذ بطائفته دفاعا عن وجوده بعد أن كان يحتمي بدولته وقانونه.

ذابت مواطنة العراقي في ظل هيمنة "دولة" عليلة، تكمنُ بذور علتها في التناقض بين كونها دولة يفترض أن تنتهج نهج القانون والمؤسسات وتساوي بين مواطنيها، وبين هيمنة أحزاب وميليشيات وجماعات دينية على قرارها الذي حادت به نحو فرض التفاضل بين الأفراد على أساس انتماءهم الديني والطائفي.

وبهذا المعنى فإن الوضع العراقي الراهن يمتلك أوجه شبه كثيرة مع الوضع اللبناني في مستوى شيوع المحاصصة الطائفية، ولجهة ضعف الدولة وترهلها، ومن ناحية ارتهان البلد للقرار الإيراني. والملاحظ في هذا الباب أن القوى المهيمنة في البلدين دخلت في علاقات تحالف مضمرة، تبعا للاشتراك في المنطلقات الفكرية، وتبعا لتداخل المصالح السياسية وتشابه الولاءات الخارجية.

الوضع اللبناني، كما الوضع العراقي، هو ترجمة مكثفة لأزمة ضعف الدولة، بكل ما يعنيه ذلك الضعف من أزمات في السياسة والاقتصاد والمجتمع وغيرها، فكلما ضعفت الدولة لسبب أو لآخر زادت قوة جماعات وميليشيات تجد مصلحتها ومنافعها في قضم مجال هيمنة الدولة بما تعنيه من احتكار للعنف الشرعي ومركزة للقرار وسيادة على قرارها ومجالها الترابي. الواضح أن المثال اللبناني بدأ يتسلل إلى أكثر من قطر عربي، مثل اليمن وسوريا وتونس وليبيا وغيرها، والجامع بين كل هذه الأقطار، باختلاف خصوصيات هذه التجارب، هو أنها جميعا تعيش بوضوح أزمة ضعف الدولة، تتخللها تقدم جماعات دينية للاضطلاع بأدوار الدولة وللاستفادة من اختلاس مجال هيمنتها. هذه الجماعات والميليشيات تعادي الدولة، بوصفها شكلا حديثا للتنظيم الاجتماعي والسياسي، وهذا العداء ينبعُ أولا من المرجعيات الفكرية الدينية لهذه الجماعات وتتغذى من نظام المصالح الذي حاكته ورسمت خيوطه، وهي تخاف من أن تستعيد الدولة نفوذها ولذلك هي تحرص بكل ما أوتيت من مسوغات وتبريرات على أن تظل الدولة ضعيفة وفاشلة لأن في ذلك فرصة لبقائها.

ولكي لا تصبح أقطارنا العربية مثل لبنان، فإن المطلوب هو أن نعزز سيادة الدولة على مجالها، لأن في ذلك ضمان لتساوي المواطنين أمام القانون بصرف النظر على إيمانهم أو انتماءهم الطائفي. سيادة الدولة مدخل وحيد لتدريب المواطنين على التشبث بمواطنتهم وانتماءهم لفضاء سياسي حديث، بدل الانتماء الطائفي، وسيادة الدولة هي أيضا مدخل لاسترجاع احتكارها للعنف الشرعي القائم على القانون، بما يعنيه من اختفاء لمظاهر العسكرة الميليشياوية والسلاح المنفلت والقتل على الهوية، وسيادة الدولة على مجالها هي كذلك استرجاعها لقرارها من الارتهان الخارجي مهما كان نوعه ومنطلقاته.