لم تخف جماعة الحوثي في السنوات الأخيرة خططها للإمساك بالممرات المائية بما يهدد الملاحة الدولية في باب المندب والبحر الأحمر. ولم تخف تلك الجماعة قدراتها في هذا الصدد، سواء باستهداف سفن أجنبية أو ناقلات نفط خليجية ولجوئها إلى هذا الابتزاز المهدد للتجارة الدولية من ضمن أوراقها لفرض إرادتها وأجندتها في اليمن.
وأتت عملية القرصنة التي استهدفت السفينة "روابي" التي تحمل علم الإمارات في 3 يناير الجاري قبالة سواحل مدينة الحديدة على البحر الأحمر، لتشعل لدى العواصم في المنطقة والعالم أضواء حمراً بشأن الأخطار التي ترتفع في المياه المقابلة للشواطئ اليمنية، وما يمكن أن يشكّله التهديد الحوثي من مخاوف تطال أمن واستقرار وانسياب التبادلات التجارية في العالم.
وأمر تهديد الملاحة في البحر الأحمر ليس عاملا جديدا في الأزمة اليمنية. فقد درجت جماعة الحوثي على التهديد بـ "تحويل البحر الأحمر إلى ساحة حرب" على منوال ما حاولت إيران تحقيقة في مياه الخليج إبان الحرب مع العراق (1980-1988)، وما كان هدد به الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني في ديسمبر 2018 من أنه "اذا أرادوا يوما منع تصدير نفط إيران، فلن يُصدر أي نفط من الخليج”.
وسبق للحوثيين عام 2016 أن شنوا هجمات فاشلة بالصواريخ على البارجة الأميركية "يو أس ماسون" و "بونز" و "نيتز". كما أن ضربات صاروخية أميركية دمرت في اكتوبر من نفس العام ثلاث مواقع رادار تابعة للحوثيين. واستهدف زورق مفخخ ميناء المخا عام 2017. وطالت صواريخ حوثية ناقلات نفط سعودية عام 2018 ما أدى إلى قرار سعودي بتعليق كافة شحناتها مؤقتا عبر مضيق باب المندب.
ويقع المضيق بين دولتي اليمن وجيبوتي، ويفصل بين قارتي آسيا وأفريقيا، ويتوسط القارات الخمس، وما يميزه أنه يصل البحر الأحمر بخليج عدن وبحر العرب والمحيط الهندي من جهة، والبحر الأبيض المتوسط من الجهة الأخرى، عدا عن عرضه البالغ نحو 30 كم، وتقسمه جزيرة بريم اليمنية إلى قناتين، الشرقية البالغ عرضها 3 كم وعمقها 30 مترا، والغربية بعرض نحو 25 كم وعمق 310 أمتار.
والظاهر أن تطور المشهد اليمني منذ الاعتداءات التي شنّها الحوثيون ضد الإمارات في 17 يناير الجاري دفع إلى إعادة قراءة الصراع في اليمن لدى العواصم الدولية بما يتجاوز معاييره المحلية الإقليمية. وما صدر من مواقف دولية داعمة للإمارات من الشرق والغرب ومن إدانة لما تم اقترافه، يكشف تصاعد التبرم الدولي من الحالة الحوثية العبثية التي تهدد دولا هي جزء أساسي من توازن النظام الدولي، كما يعبّر عن الحاجة إلى مقاربة الصراع اليمني بمداخل جديدة تمنع تلك الجماعة من تهديد أمن الشواطئ وأعالي البحار.
وكانت إدارة معلومات الطاقة الأميركية قد ذكرت أن ما يقدر بـ 6.2 مليون برميل من النفط الخام والمنتجات النفطية عبرت يوميا باب المندب في العام 2018، فيما مرّ عبره في العام 2017 نحو 9 بالمئة من إجمالي النفط المنقول بحرا والمتوجه إلى أسواق متعددة. وإضافة إلى النفط، تذكر تقارير متخصصة أن الشحن التجاري المحلي والدولي والسفن العسكرية وقوارب الصيد والسفن السياحية تعبر كلها عبر باب المندب.
وعلى الرغم من أن تعقّد الصراع في اليمن مرتبط أيضاً بتعقّد الحالة الإيرانية وشبكاتها في المنطقة، إلا أن ضبط النفس الدولي الذي تفرضه المفاوضات الجارية هذه الأيام في فيينا لم يمنع عواصم القرار، لا سيما تلك الموقِّعة على الاتفاق النووي والساعية حاليا إلى إنتاج اتفاق محدث، من التنبه إلى ضرورة التحرّك العاجل لمنع طهران -التي لطالما هددت بتعطيل الملاحة في مياه الخليج وبحر عمان- من ابتزاز المجتمع الدولي بتعطيل الملاحة في بال المندب والبحر الأحمر من خلال ذراعها العاملة في اليمن.
وكان الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي نايف الحجرف، قد أجرى إثر ما تعرضت له سفينة الشحن "الروابي" مباحثات مع قائد الأسطول الخامس الأمريكي، الفريق بحري شارلز برادفورد كوبر، حول ضمان حرية حركة الملاحة بمنطقة الخليج.
وقال بيان صادر عن المجلس، إن الحجرف اجتمع مع الفريق كوبر في مقر الأمانة العامة للمجلس في العاصمة الرياض، وأكد أهمية تعزيز التعاون في مجال الأمن البحري في إطار الشراكة الاستراتيجية القائمة بين مجلس التعاون والولايات المتحدة. وتغطي منطقة عمليات الأسطول الخامس ما يقرب من 2.5 مليون ميل مربع، وتشمل الخليج العربي، وخليج عمان، والبحر الأحمر، وأجزاء من المحيط الهندي. وتضم المنطقة 21 دولة، و3 نقاط حرجة في مضيق "هرمز" وقناة السويس ومضيق "باب المندب".
وتتخوف العواصم المعنية من أن إغلاق مضيق باب المندب قد يمنع الناقلات القادمة من خليج العرب من عبور قناة السويس أو الوصول إلى خط أنابيب السويس-البحر المتوسط (سوميد). ويمتد خط الأنابيب من خليج العقبة إلى ميناء الإسكندرية في مصر. وقد يجبر إغلاق باب المندب الناقلات على اعتماد طريق أطول بكثير وأكثر كلفة يمر عبر الطرف الجنوبي لأفريقيا.
وفيما كان واضحاً أن المجتمع الدولي ضغط لمنع إسقاط محافظة الحديدة وموانئها قبل سنوات، وعمل على الحفاظ على الستاتيكو من خلال اتفاق ستوكهولم، فإن أمن الملاحة الدولية لا يمكن أن يكون خاضعاً لمزاج التطورات الميدانية كما الأجندات السياسية للحوثيين وطهران. وبينما قلبت التطورات العسكرية الأخيرة موازين القوى في مأرب وشبوة ومناطق أخرى وتقهقرت خطوط الحوثيين، فإن المطلب الحكومي القديم لاستعادة موانئ الحديدة من يد الحوثيين بات سيناريو قد ترفع عنه العواصم الكبرى الموانع والتحفظات.
والحال إن السيطرة على أمن المياه المقابلة للشواطئ اليمنية بات ضرورة لوقف تدفق الأسلحة نحو ميليشيا الحوثي الذي يشكل سببا لإطالة أمد الصراع ويعرقل الدفع باتجاه طاولة المفاوضات لانتاج تسوية سلمية. كما أن الإمساك بأمن البحر الأحمر والممرات الدولية لا سيما باب المندب هو مسؤولية الدول المطلة على البحر كما أنها مسؤولية دولية شاملة. ولئن تحرّكت الدول مجتمعة لمجابهة انتشار القرصنة الواردة من الصومال قبل سنوات كما تأمين الأمن الملاحي في مياه الخليج، فإن المسؤولية الدولية تتطلب تحركاً يتجاوز المعمول به حالياً.
والحال إن لدول العالم مصالح مشتركة ومتناقضة تتعلق بالبحار والممرات الدولية. غير أن الصين كما الولايات المتحدة مرورا بروسيا ودول الاقتصادات الكبرى تلتقي جميعا على ضرورة وقف ظاهرة العبث التي يمثلها الحوثيون في اليمن والتي باتت تمثل تهديدا للمنظومة الدولية بأجمعها. والواضح أن "تسونامي" التضامن الدولي الشامل مع الإمارات يكشف في وجهه الآخر إجماعاً نادراً، لا سيما للدول المتناقضة، على إدانة خطر بات يتجاوز اليمن ليطال مصالح العالم أجمع.