كشفت الانتخابات العراقية الاخيرة، بتحدياتها المؤسساتية ونزاعاتها السياسية، عن الكثير من العيوب البنيوية في أحزاب الإسلام الشيعي العراقي التي حكمت البلد منذ 2005.

بعد انتهاء سنوات الاطمئنان السياسي لاحتكارها السلطة، تظهر الطبيعة الحقيقية لهذه الأحزاب في لحظة هلعها من احتمال انزلاق السلطة من بين يديها: تحريضية وانتهازية وطائفية. تمثلت هذه كلها في خطاب وسلوك الإطار التنسيقي الذي ضم الأحزاب الشيعية الخاسرة في الانتخابات الاخيرة.

تشكل الإطار التنسيقي في مارس 2021 في اجتماع في بيت رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي ضم زعماء وممثلي الكتل الشيعية في البرلمان (هادي العامري، عمار الحكيم، حيدر العبادي ونصار الربيعي). في هذا الاجتماع الذي حضره أيضاً رئيس الوزراء الحالي، مصطفى الكاظمي، اتفق المجتمعون الحزبيون على أن يكون الإطار تجمعاً برلمانياً غير رسمي هدفه تنسيق مواقف القوى الشيعية الرئيسية الخمس في البرلمان (سائرون والنصر ودولة القانون والحكمة والفتح) لخدمة مصالح "المكون الشيعي". ارتبط السياق المباشر لتشكيل الإطار بتمرير البرلمان ميزانية 2021 المتأخرة في نهاية مارس من العام نفسه وإصرار المجتمعين على حصول محافظات الوسط والجنوب "الشيعية" على حصتها كاملةً من الميزانية.

ككل جهود التنسيق السابقة بين الأحزاب الشيعية سواء البرلمانية أو السياسية، بشكلها الرسمي وغير الرسمي، كالائتلاف الوطني ولجنة السبعة والبيت الشيعي، كان الإطار التنسيقي جهداً فاشلاً، لأسباب كثيرة يتعلق معظمها بتضارب مصالح هذه الأحزاب ورفضها الاحتكام لسلطة قرار واحدة عند الاختلاف، فضلاً عن افتقادها لرؤية موحدة بخصوص المصلحة الوطنية العراقية، أو حتى مصلحة شيعة العراق التي تدعي هذه الأحزاب تمثيلهم. منذ تأسيسه ولحد الآن، لم يرتبط اسم الإطار بأي إنجاز لافت يثير الانتباه إليه.

ظل الإطار التنسيقي اسماً مجهولاً في السياسة والإعلام في السبعة أشهر الأولى من حياته، إلى أن ظهرت نتائج انتخابات أكتوبر الماضي ليحتل الاسم بسرعة فائقة الصدارة في الإعلام ونقاشات العامة كجبهة سياسية مشككة بنتائج الانتخابات ومنافسة للتيار الصدري، الفائز بالانتخابات. احتاجت الاطراف الشيعية الخاسرة أن تنتظم بسرعة في جبهة كهذه، كي تستقوي ببعضها الآخر في مواجهة خصم صلب ومنظم وفائز كالتيار الصدري وفي التفاوض معه، فكان الإطار التنسيقي هو المظلة الجاهزة لمثل هذه المهمة الصعبة.

لكن الإطار التنسيقي، الفاشل في مهمته البرلمانية الأصلية، كان أيضاً فاشلاً في مهمته السياسية الجديدة: لم يستطع أن يتحدى بنجاح نتائج الانتخابات، وعجز عن إقناع التيار الصدري بعقد تحالف معه، فضلاً عن خسارته معظم الرأي العام العراقي بسبب خطابه التحريضي والطائفي والمتناقض والأناني. هنا تكمن بالفعل خطورة الإطار التنسيقي كتجمع مصلحي عابر، مستعد لأن يوظف كل السلوكيات المتيسرة له في معركة خاسرة سلفاً، دون اهتمام بأخلاقية أو قانونية هذه السلوكيات أو مراعاتها للمصلحة العامة.

في البدء، هدد الإطار التنسيقي أن السلم الأهلي سيتعرض للخطر إذا لم تُعدل نتائج الانتخابات لصالحه، ثم عمد إلى استخدام عسكريين من منتسبي الحشد الشعبي في مظاهرات غير قانونية، (يمنع الدستور والقوانين العراقية على نحو صريح وقاطع مشاركة المنتسبين في القوات المسلحة في أنشطة سياسية). كما كانت ازدواجية خطاب الإطار صادمة لتصل حد الاستهزاء بذاكرة الجمهور، إذ أصر زعماء الإطار، كنوري المالكي وهادي العامري وقيس الخزعلي، على ضرورة استمرار التقليد السيء والضار بخصوص التوافق والمحاصصة في تشكيل الحكومة المقبلة الذي يعني تمثيل كل الأطراف السياسية الحاصلة على مقاعد برلمانية في الحكومة، رغم أنهم كانوا يدعون في الماضي القريب وبقوة إلى التخلي عن هذا التقليد واصفين التمسك به بالخيانة وتعمد الإضرار بالمصلحة الوطنية. يرتبط هذا التغير الانتهازي في خطاب الإطار بقلق أطرافه من استبعادهم من الحكومة المقبلة في ظل إصرار التيار الصدري على تشكيل حكومة أغلبية سياسية.

الأشد خطورةً ومدعاةً للقلق في سلوك الإطار هو إحياؤه، وعلى نحو فج وفاقع، للخطاب الطائفي الذي تراجعت عنه أطراف الإطار في خلال السنوات القليلة الماضية. من خلال هذا الخطاب، المهجور عراقياً منذ اندلاع احتجاجات تشرين 2019، يحاجج الإطار أن "المكون الشيعي" سيُظلم في الحكومة المقبلة وحقوقه تُهدر لأن الإطار غير ممثل فيها، وأن هذا سيقود إلى خسارة الشيعة حكم العراق وتعرضهم للاضطهاد، بل وحتى إلى تقسيم البلد!!! كمية الاستفزاز والاستخفاف بالعقول وتزييف الحقائق في مثل هذه الدعوى هائلة، إذ لم يحصل الشيعة العراقيون بعد 2003 على أي شيء ذي قيمة من حكم أحزاب الاسلام السياسي الشيعي، ومعظمها ممثلة في الإطار التنسيقي، بل تدهورت أوضاعهم وزادت النقمة بينهم ضد هذه الأحزاب كما تشهد بذلك الاحتجاجات الشعبية المتكررة في المناطق والمحافظات ذات الأغلبية الشيعية، ضد حكم هذه الأحزاب، ومقاطعة غالبية الجمهور الشيعي لآخر عمليتين انتخابيتين، في 2018 و2021. يحاول الإطار هنا وعلى نحو مخادع الادعاء أنه والتيار الصدري يحتكران تمثيل الشيعة في العراق، رغم أن الأرقام والوقائع الانتخابية تدحض بسهولة مثل هذا الادعاء.

فيما يقترب الإطار التنسيقي من الخسارة النهائية لجولته السياسية بعد فشله في تعديل نتائج الانتخابات إثر تصديق المحكمة الاتحادية عليها، وعجزه عن تشكيل أغلبية برلمانية في جلسة البرلمان الأولى هذا الأسبوع، تزداد هستيريا خطابه. الأكثر إثارةً للانتباه بهذا الصدد هما حجتان غريبتان بدأ أعضاء في الإطار يروجون لهما بشدة في الإعلام. الأولى هي مهاجمة الأكراد والسنة واتهامهم بأنهم المذنبون الرئيسيون في "الأزمة الحالية" ويتحملون نتائجها المستقبلية "المضرة" لأنهم وافقوا على التحالف مع التيار الصدري لتشكيل حكومة الأغلبية السياسية التي يصر عليها التيار. كان اللوم الإطاري للسنة أشد قسوة ويقترب من الوقاحة المختلطة بطائفية صريحة من خلال "تَعيير" السنة أنهم ناكرون للجميل "الشيعي" ولم يقدروا تضحيات أبناء الوسط والجنوب في تحرير المناطق ذات الأغلبية السنية من سيطرة تنظيم داعش. كان هذا استعادة جديدة لخطاب "المِنّيْة" على السنة الذي برعت فيه الفصائل المسلحة المتحالفة مع إيران. يمثل هذا اللوم غير المبرر لهذين الطرفين هروباً من مواجهة الحقيقة الواضحة المتعلقة برفض التيار الصدري التحالف مع الإطار، كما أنه كاشف ايضاً عن خوف الإطاريين من لوم الصدر الذي يكلفهم ثمناً سياسياً باهظاً بعكس لوم السنة والأكراد بتكلفته السياسية الواطئة.

الحجة الثانية للإطار هي اشتراطه دخول أطراف سنية وكردية في المعارضة إذا كان عليه هو أن يذهب للمعارضة، فليس من الإنصاف، بحسب حجة الإطار، أن تكون المعارضة البرلمانية من الشيعة فقط. يفترض الإطار التنسيقي على نحو خاطئ أن تشكيل المعارضة البرلمانية ينبغي أن يكون على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية، كما قاد هو كل الحكومات على أساس نفس المحاصصة!! أفسد الإطار التنسيقي تجربة الحكم في البلد من خلال المحاصصة التي مارسها على مدى الخمسة عشرَ عاماً الماضية ويحاول الآن إفساد تجربة المعارضة المستقبلية عبر اشتراطه المحاصصة فيها ايضاً!!

يكمن السبب الرئيسي لفشل أحزاب الإسلام السياسي الشيعي المتمثلة في الإطار التنسيقي بعد 2003 في عجزها عن فهم معنى الحكم الناجح أو المعارضة الناجحة، اذ ترفض هذه الأحزاب الإقرار بحقيقة بديهية في كل الأنظمة الديمقراطية الناجحة. هذه الحقيقة هي أن الإدارة الصائبة للدولة تتطلب وجود حكومة تمثل الأغلبية السياسية ومعارضة لها تمثل الأقلية السياسية.

المعارضة ليست انتحاراً سياسياً إلا للأحزاب التي تعتاش على موارد الحكم لأنها بدون قاعدة شعبية حقيقية. هنا بالضبط تكمن المعضلة الحقيقية للإطار التنسيقي.