ماذا لو حكّمنا اللغة في حقّ ظاهرة كالقناع؟

فكلمة "كمّامة" مفردة بدئيّة مستعارة من فعل بدئي هو: إكما، الدالّ على الوجع، كما في الليبية القديمة. لماذا الوجع؟ الوجع بسبب الضغط. الوجع بسبب التضييق، الملازم لقمع أي جرمٍ بجرمٍ آخر كما يحدث في هذه الإحاطة المتمثّلة في تكميم سحنة الوجه بقطعة أخرى، الشبيهة بتدخّل جراحي لطمس سيماء، وإحلال سيماء أخرى مكانها. وهي عملية تزييف في الواقع مادام الغرض منها محو أثر أصيل، واستبداله بآخر بديل.

من هذا المبدأ القمعي استعارت العربية كلمة "كمأ"، تلك الثمرة الأسطورية التي تجود بها الصحراء بفعل أحلاف غيبية في الطبيعة كالرعود والبروق والغيوث الخريفية، فتتكوّن محشورةً في واقع تربةٍ صلبة، تقمع فيها يبوسة الأرض الجرم الهشّ، فتتململ في الحشر المحكوم بناموس القمقم، فلا تجد مفرّاً من اقتلاع طين الأرض كي تتحرر من الأسر الوجيع، فتتمرّد على الحصار، وتطلّ برأسها على السطح، مستعيرةً هوية: اللقية!

من طبيعة اللقية استعارت اللغة الليبية القديمة، ووريثتها الصحراوية، كلمة "كمت" الدالّة على اللقية. في حين أضحى الاسم أسطورياً، عندما استعاره قدماء المصريين ليكون أحد أسماء مصر الأربعة (إلى جانب "مزر" و"إيغيبت" و"توّيوَي")، للتدليل على بلادهم بوصفها لقية الأزمنة التي لا تقارن بلقية!

الوجع، إذاً، هو أحد أسماء القناع، في بُعد الكمّامة انطلاقاً من مفهوم مترجم في حرف تدخّل حسّي، التضييق الوجيع فيه مجرد حجّة، ولكن الغاية فيه هي التزوير. ما معنى التزوير؟

التزوير يعني إنكار هويّتنا، باللجوء إلى محو ملامح هويتنا. وهي حيلة ستبدو طفولية في حال تأمّلناها مليّاً، لأن محاولة طمس سيماء حرفية سيبدو عملاً ساذجاً بالنسبة لإنسان يحاول أن ينكر في نفسه هويّة أبعد منالاً من هويّة حرفٍ يسكن الواقع الحسّي، لأن الرهان في إنكار الهوية الحرفيّة لا يسكن السيماء، ولكنه يقيم بعيداً في البعد المفقود، يقيم في غياهب الروح، ومحاولة تغييره بحرف ملامح الوجه، أو تعبير تقاسيم الملامح، عبث لن ينطلي حتى على الأطفال، وبرغم ذلك نحترف هذه اللعبة تلبية لنداء يحيا فينا عميقاً، لأنه طبيعة تسري فينا. وهو ما تكشفه لنا لغة أخرى كاللاتينية.

ففي العربية كلمة لثام لا تفي بالغرض في إنكار الملامح، لأن اللثام لا يحجب سوى الفم. وهو حجب لا يكفي لطمس ملامح الوجه عادةً، لأن الأنف يلعب دور البطولة في صفقة السيماء، وبقاؤه عارياً لا يحقق في الهوية الاغتراب المطلوب. ولهذا هرع الدهاة لاختراع اسم آخر للقناع في حال حجب الأنف، وهو: اللفام (بالفاء)، إمعاناً في وجوب نفي الأنف أيضاً، لأن حضوره كفيل بفضح مكيدتنا في حقّ الهوية. فإذا كان حبس الأنف شرط لاستكمال فصول الزيف، فلماذا اعتقال الفم أصلاً؟

السبب يكمن في طبيعة الفم الغيبية التي تسكن اسمه، بوصفه بوّابة طبيعة طاغية اسمها: الإنسان.

ذلك أن حرف الفاء في كل لغات العالم المهووس باللاهوت تعني: الضياء، كما في المصرية القديمة وشقيقتها الليبية القديمة، واليونانية القديمة، التي استعارت منها اللغات الهند أوروبيّة اسم النار، من حرف هذا الساكن الواحد. أمّا الميم، فتعني في اللغتين المصرية والليبية القديمتين: الباب، حيناً، والطبيعة حيناً آخر. وما الفم سوى بُنية مستعارة من هذين المفهومين ليغدو في الترجمة: ضياء الطبيعة. أي ما يمكن أن نستنير به في رحلتنا لدخول عالم مجهول هو الطبيعة، حيث ينتظرنا في المدخل مارد محشور وراء قضبان هي الأسنان، تحرس لساناً، هو ليس مجرد ترجمان هنا، ولكنه يختزل في عضلته المميتة الإنسان كلّه!

وعندما أقول مميتة، فإنّما أستعير هذا الحكم في حقّ اللسان من الكتاب المقدّس الذي لم يكتفِ بهذا الحكم، ولكنه أضاف وصمةً أرذل في حق هذه العضلة عندما وصفها بـ المسمومة، لأن كل شيء في الدنيا استطاع الإنسان أن يقنّنه إلا اللسان، فهو وحده المارد الذي أعجز الانسان وأخفق في أن يقمع فيه الشهوة إلى القول، وما اختراع اللثام سوى حيلة لوقف هذا النزيف الذي يتدفّق به اللسان. وما لثام أهل الصحراء الكبرى سوى تلبية عفوية لهذا النداء الوجودي الذي يتكلّم في كلّ منّا لكي نضع حدّاً لطغيان لسان هو فينا برهان على حضورنا في هذا الوجود، بعد أن أخفقت الطبيعة نفسها في الاحتيال عليه عندما أوقفت قضباناً شرسة كالأسنان أحراساً عليه كي يلجموا فيه الظمأ إلى القول!

وعلّ أطرف ما يجود به القناع هو المعالجة التي يقترحها اللسان اللاتيني، المطروحة في كلمة persona كرديف لمفهوم القناع، الرديف هنا لمفهوم الإنسان أيضاً، كترجمة لليونانية: maská. وهو ما يعني أن الإنسان ما هو إلّا قناع. قناع بطبيعته كإنسان، يحاول أن ينكر في نفسه كينونته الحقيقية، ويستميت في تقديمها مجلّلةً في مسوحٍ ممهورةٍ بختمٍ مستعار. أي أن وجوده كلّه مجبولٌ بانتحال شخصية أخرى، تحوي هوية أخرى، تختلف تماماً عن هويته الأصلية. فما سرّ هذا الهوس بالتزوير؟

أيعقل أن يكون مجرد حنين إلى ذلك المصير الذي صار في وجودنا لعنةً، كما الحال مع التغيير؟!

أم أن هذه الحاجة الجنونية إلى اعتناق دين التغيير ناتجة عن عطش غيبيّ إلى القداسة الضائعة بسبب الإحساس التراجيدي بوزر الخطيئة الأولى؟

فاللهفة المرضيّة لاعتناق دين القناع، هو سعي للتحرّر من وصمة عار، من جرثومة إثم، تغلغلت لتسري في الروح، لتغدو هاجساً وجودياً صار التنصّل منه بمثابة فوز بحلم حميم، هو، في حدوده القصوى، بمثابة استعادة لفردوس مفقود.

فالقناع هنا شهادة خجل تكفيريّة، على اقتراف جريمة غيبيّة.