في ثنايا قصة الجيش العراقي التي تتجاوز هذا العام قرناً من الزمان تكمن ايضاً قصة الدولة العراقية الحديثة، بنجاحاتها وخيباتها وآفاقها المفتوحة على احتمالات مختلفة حد التناقض أحياناً.
ترافق الجيش والدولة على امتداد هذه القصة صعوداً ونزولاً وترقباً. كان قرار بريطانيا الإسراع بإنشاء الدولة، بعد الضغط الأمني والعسكري الذي شكلته عليها ثورة العشرين، يستبطن إنشاء الجيش ليتولى حماية الأمن الداخلي لهذه الدولة فيما تتولى بريطانيا حماية هذه الدولة من الاعتداء الخارجي.
بعكس السائد عراقياً، لم يكن السادس من يناير في 1921 الموعد الحقيقي لتأسيس الجيش العراقي. كان قرار تأسيسه مرتبطاً بتأسيس الدولة، وكلاهما اتخذ في مؤتمر القاهرة في 12-30 مارس 1921، الذي ترأسه وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرشل وضم مسؤولين بريطانيين معظمهم يعملون في الشرق الأوسط، بينهم جيرترود بيل، السكرتيرة الشرقية للمفوض السامي في العراق والمعروفة باسم مس بيل.
كان غرض المؤتمر التباحث في السياسة البريطانية في المنطقة واتخاذ قرارات بشأنها. العراقيان الوحيدان اللذان حضرا المؤتمر هما جعفر العسكري وساسون حسقيل، وزيرا الدفاع والمالية في الحكومة العراقية الأولى الانتقالية برئاسة عبد الرحمن الكيلاني، قبل تشكيل الدولة رسمياً في أغسطس 1921. في ذلك المؤتمر اتخذ القرار بأن يكون فيصل ملكاً على العراق.
فيما بعد، وكجزء من صناعة سردية وطنية للدولة الناشئة تتمحور حول العراقيين وجهودهم، تَرَسَخَ السادسُ من يناير موعداً لتأسيس الجيش رغم أنه كان يوماً عادياً حصل فيه اجتماع في قصر لأحد الأغنياء البغداديين جمع جعفر العسكري مع ضباط عراقيين وبريطانيين تناولوا فيه خططا لإنشاء الجيش.
غالباً ما تفعل الأمم هذا، خصوصاً تلك التي تشكلت من خلال هيمنة أجنبية، وذلك في سعيها، التالي لتلك الهيمنة، تأكيد هويتها عبر إثبات أن الأشياء المهمة كانت من صناعتها هي وليس الأجانب.
هشاشة الدولة الوليدة وشحة مواردها انعكستا على هشاشة الجيش، الذي لم تتجاوز إعداده بضعة آلاف عسكري في السنوات الأولى.
كانت مهمته الأساسية تثبيت سلطة الدولة وهيبتها داخلياً بمقابل "شعب" لم يتشكل بعد، معظمه عشائري ومسلح اعتاد تحدي أي سلطة مركزية تحاول أن تفرض عليه تحديدات قانونية لم يعتدها.
من هنا تشكي الملك فيصل في مذكرته الشهيرة في عام 1932 عن عجز الجيش عن التعاطي مع تمردين عشائريين في منطقتين بعيدتين يحدثان في ذات الوقت، وتأكيده على أن العشائر تملك من البنادق أكثر مما يملك الجيش.
في اختباراته الأولى الكبرى، لم يكن الجيش ناجحاً. في تصديه للانتفاضة المسلحة التي قادها الشيخ محمود الحفيد في الشمال الكردي في 1931، مُني بخسائر كبرى ولولا تدخل القوة الجوية البريطانية وجنود الليفي من الأشوريين ذوي الكفاءة العالية المدربين بريطانياً، لكانت هزيمتُه شنيعة حينها.
بعد عامين قام نفس الجيش بمجزرة مروعة في قرية سميل في محافظة دهوك بحق غالبية سكانها من الأشوريين ذهب ضحيتها بضع مئات من المدنيين العزل.
لكن كان الجيش أيضاً مثالاً مبكراً على صناعة تعايش عراقي قاد في آخر الأمر إلى أحد أشكال الوطنية العراقية.
ظهر هذا الأمر عبر جدل التجنيد الإجباري الذي كان يطالب به منذ منتصف العشرينات الملك فيصل والساسة الملكيون ورفضه بشدة الأغوات الأكراد والشيوخ الشيعة مع دعم بريطاني لموقفهم.
عبر هذا التجنيد الإجباري، التقى عراقيون من مختلف أنحاء البلد في تجربة عيش مشترك ساهمت في ترسيخ قيم مشتركة بينهم.
مع ذلك، كان هناك جانب عملي بخصوص تشريع التجنيد الإجباري الذي لم تستطع الدولة فرضه إلا بعد نهاية الانتداب البريطاني في 1932 وتراجع الدعم العسكري البريطاني بعد نهاية الانتداب.
عند إمرار البرلمان العراقي في 1934 قانون التجنيد الإجباري وتطبيقه في العام التالي، بدأت تتوفر للدولة ما يكفي من قوة عسكرية لردع التمردات العشائرية خصوصاً في وسط البلد وجنوبه (وكثير منها ارتبطت برفض العشائر للتجنيد الإلزامي).
لكن بعد عام من تنفيذ القانون، استدار الجيش نحو السياسة، على الأكثر بتشجيع الملك غازي الذي كان قليل الحكمة السياسية، ليقوم بانقلابه الأول في 1936 ليطيح حكومةً قوية ترأسها ياسين الهاشمي أقلقت الكثير من ساسة العهد الملكي، بضمنهم الملك غازي نفسه.
كان هذا الدخول في السياسة بدايةً لتقويض المؤسسات الهشة أصلاً في نظام ملكي لم يتطور تماماً ليصبح ملكية دستورية.
عاش الجيش هيمنته الأشد على السياسة في العهد الملكي بين عامي 1936 و1941 إذ كان له قول حاسم في تشكيل وسياسات كل الوزارات التي أدارت البلاد خلال هذه السنوات.
مثلت نهاية حكومة الدفاع الوطني التي ترأسها أحد خصوم النفوذ البريطاني، رشيد عالي الكيلاني، بعد حرب خاسرة ضد بريطانيا انتهت بسقوط حكومته وهروبه خارج البلد في 1941، مثلت الطلاقَ النهائي بين النظام الملكي والجيش.
لم يغفر الساسة الملكيون، وبالذات الوصي عبد الإله، تمرد الجيش ضدهم، فعاقبوه بقسوة، بإعدام قادة التمرد وتعليق جثة أكبرهم منزلةً، العقيد صلاح الدين الصباغ، أمام بوابة وزارة الدفاع وتقليم أظافر الجيش عبر تقليل الإنفاق عليه وتخفيض حجمه من أربع فرق إلى فرقتين.
تحول اعتماد النظام الملكي، لأغراض حمايته، من الجيش إلى الشرطة السرية التي بدأت سطوتها تظهر منذ ذلك الوقت. لم ينسَ كبار ضباط الجيش إهانة النظام الملكي ومعاقبته لهم. جاء ردهم بعد أكثر من عقد ونصف عندما أطاحوا في 1958 النظام الملكي وأنشأوا نظاماً جمهورياً هيمنوا عليه على مدى 10 سنوات.
فتح وصول حزب البعث إلى السلطة في 1968 فصلاً جديداً في علاقة السلطة بالجيش، فبعكس السنوات العشرة الأولى من النظام الجمهوري حيث هيمن الجيش مباشرةً على الحياة السياسية، سيطر ولأول مرة في تاريخ عراق الدولة، حزب سياسي، تحول سريعاً إلى "الحزب القائد،" على الجيش والدولة معاً.
بمغادرة الرئيس أحمد حسن البكر موقع السلطة مجبراً في 1979 لصالح النجم الشاب الصاعد، صدام حسين، امتدت سيطرة الحزب إلى المجتمع أيضاً، لتتشكل سريعاً دولة شمولية شديدة القسوة نشرت الخوف في كل مكان وأخضعت الجميع لهيمنتها الصارمة.
في ظل هذه الدولة التي أصبحت الأولوية فيها للأجهزة الحزبية والأمنية على الأجهزة العسكرية، فَقدَ الجيش أي صوت سياسي له أو إرادة مهنية مؤسساتية له، ليصبح أداةً طيعة بيد "السلطة الثورية" وهي تستخدمه لحسم ملفات السياسة الخارجية، بدلاً من أن تحسمها مهارة الدبلوماسية العراقية.
كان على البلد أن يبدأ حربين مدمرتين: حرب إيران ثم حرب الكويت. انتهت حرب الكويت في 1991 بكارثة عميقة وطويلة الأمد لم تنته آثارها الاقتصادية والقانونية بإطاحة نظام صدام حسين في 2003.
قرر المنتصرون الجدد، الأميركان بتأييد زعماء سياسيين عراقيين، معاقبة الجيش الذي لم يقاتلهم بحله، ليفتح حمق هذا القرار حزمة مشاكل سياسية وأمنية كلفت البلد الكثير لتجاوزها.
الجيش العراقي اليوم هو الأكثر ابتعاداً عن السياسة منذ تأسيسه قبل أكثر من قرن. هذا شيء جيد بلا شك، لكنه أيضاً واقع تحت تغول جماعات ميليشياوية وحزبية تسعى إلى تجييره وإبعاده عن مهامه القانونية والدستورية بأن يكون مؤسسة مهنية تحمي البلاد والنظام السياسي من دون أن يكون نفسه جزءاً من السياسة.
هذا هو التحدي الكبير الذي يواجههه الجيش اليوم أن يتحرر من تأثير التسييس والميليشياوية وأن ينتمي أداءً وولاءً على نحو غير مشروط للدولة والشعب.