مفارقة لافتة أن المجتمع الدولي، وعلى الرغم من حالة التحلل الحاصلة في لبنان، لم يخفف من انخراط واجهاته في البلد. تنتشر في الجنوب قوات اليونيفل التابعة للأمم المتحدة والتي تشارك 46 دولة في عديدها البالغ أكثر من 10 آلاف جندي.
وما زالت كافة البعثات الدبلوماسية وسفارات الدول تعمل، وبعضها بجدٍّ مفرط، في مقراتها في العاصمة بيروت والمناطق القريبة بدون أي أعراض، حتى الآن، على خطط لإغلاقها.
على هذه الحقيقة ومعطيات أخرى استند رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي مؤخراً في التأكيد على وجود مظلة دولية تمنع سقوط البلد. وعلى الرغم من أن اللبنانيين يعيشون مأساة معيشية غير مسبوقة لا توحي بوجود تلك المظلة العجيبة، إلا أنه واضح أن المجتمع الأممي يمسك بيد لبنان بحذر وصعوبة لمنعه من السقوط في هاوية الانهيار الكامل.
وفق هذه المعادلة يزور الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش لبنان. يأتي الرجل متفقداً أحوال البلد محاولا، من خلال لقاءاته مع الطبقة السياسية كما مع منابر لبنانية أهلية وروحية، أن يحثَّ بيروت على الإقدام على توفير فرص إنقاذ لبنان من مأساته. عشية زيارته أطلق الرجل مواقف تؤكد أن الحلّ يأتي فقط من "داخل لبنان" على نحو يبدد وجود أي خطة دولية ضاغطة تنقذ اللبنانيين من براثن حاكميه. والرجل، في سعيه الجديد، يؤكد اهتمام المجتمع بقضية لبنان ومصيره، وأن المنظمة الدولية التي تتفهم، من خلال تناقض أجندات أعضائها، تعقّد ظروف البد في الدخل والمحيط، ما زالت تنظر بـ "خصوصية" إلى البلد ومآلات صراعاته.
يأتي تخصيص الرأس الأول للمنظمة الأممية "زيارة دولة" لأربعة أيام للبنان من داخل سياق تدفق المبعوثين الدوليين على بيروت خلال السنوات والأشهر الماضية، ومتكاملاً مع الورش السياسية والدبلوماسية التي تقودها فرنسا بهمّة رئيسها إيمانويل ماكرون. والواضح أن غوتيريش يقتفي في جولته اللبنانية مسارا فرنسيا متوافقا مع الاتحاد الأوروبي منسّقا مع الولايات المتحدة يواكبه الفاتيكان بدون أي اعتراض من الصين وروسيا. ولا تأتي زيارة الأمين العام "سياحية" أو رعوية دبلوماسية يجامل بها القوات الأممية في لبنان فقط، بل تحمل رسائل جديدة ترفع من مستوى الهمّ اللبناني داخل أروقة القرار الأممي.
يدرك غوتيريش كما الفرنسيون من قبله كما كافة رُسل العواصم حين يزورن لبنان أنه بلد لا يملك قراره. ولئن يتمترس المتذاكين في لبنان وراء الشرعية الديمقراطية لتفسير الأحجام السياسية في البلد، فإن الدوائر العربية والإقليمية والدولية ومن يمثّلها من سفارات في بيروت تعرف أن سلاح حزب الله (ومن خلفه إيران) يتحكّم في طبيعة الحكومة وقراراتها، وطبعا، وكما هو الحال هذه الأيام، يتحكم بانعقاد مجلس الوزراء من عدمه كما تحكّم سابقا بفتح مجلس النواب أو وصد أبوابه أو بانتخاب رئيس للجمهورية أو الاستمرار بالفراغ .
وحين يوحي غوتيريش قبل وصوله إلى بيروت بأن الحل بيد اللبنانيين، فإنه لا شك يعرف جيداً أن الأمر ليس كذلك، وأن تحاذق باريس قبله في هذا الشأن اصطدم بحقيقة أمر واقع منع تقدم مبادرة ماكرون التي خالها عجائبية منقذة لانتشال لبنان بعد مصاب مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020.
والحال أن قيامه، كأمين عام للمنظمة التي تمثل المجتمع برمته، بطرق أبواب بيروت هو، في جانب من الأمر، إقرار مبطّن بأن الأمر ليس بيد اللبنانيين ولا بيد حكومة ميقاتي ولا الحكومات السابقة. كما أن جولته على قوات الأمم المتحدة في جنوب لبنان بالقرب من الحدود مع إسرائيل، دليل آخر على أن تدخلا دوليا مُرر داخل المنظمة الأممية، هو من أوقف انهيارات سابقة وفرض على منظومة الحكم خيارات كان يرفضها أصحاب قرار بيروت الحقيقيين في دمشق سابقا وفي طهران راهنا.
"الخصوصية" التي تَعدُّ بها همّة الأمم المتحدة وأمينها العام تكمن في أهمية لبنان الجيوستراتيجية كما تأثيرات مصيره داخل ملفات كثيرة مترابطة تهمّ عواصم القرار الكبرى.
يأوي البلد حجما ديمغرافيا من اللاجئين السوريين (يقدر عددهم بـ 1.5 مليون لاجئ) هو الأعلى كثافة في مقارنته بعدد سكان لبنان. ولطالما عبّر الأوروبيون عن قلق من إنهيار "أسوار" لبنان التي تحول دون تدفق لاجئيه باتجاه أوروبا على منوال ذلك "التسونامي" الذي عرفته القارة العجوز عبر الحدود التركية قبل سنوات. كما أن البلد مطلّ على الحوض الشرقي للبحر المتوسط حيث تتركز الثروة الجديدة من الغاز في المنطقة. ناهيك من أن البلد يمثّل خطراً على أمن إسرائيل وهو أولوية ليس للولايات المتحدة والمنظومة والغربية فقط، بل أيضا بالنسبة لروسيا والصين. وأخيراً وليس آخرا فإن لبنان منبر إيراني بامتياز تطلّ منه طهران على العالم الذي جاء غوتيريش يمثله في بيروت
الحقيقية الإيرانية في لبنان هي واقع يشلّ قرار بيروت ويكبّل أيدي حكوماتها. والحقيقة الإيرانية هي التي أدت إلى هذه القطيعة غير المسبوقة بين دول الخليج ولبنان. والحقيقة الإيرانية هي التي تقف وراء حماية منظومة الفساد التي تتحكم بالبلد، ووراء كارثة المرفأ التي كادت أن تزيل بيروت المدينة المتوسطية عن هذا الكوكب، وهي التي تقف وراء تعطيل التحقيق في هذه القضية.
ولئن لا يغيب عن بال غوتيريش ولا من التقارير التي تتكدس على مكتبه هذه الحقيقة، فحريّ به، وهو الذي يرعى المنظومة الأممية أن يستنتج خلال معاينته الراهنة لمسرح الحدث أن الخلاص ليس بيد اللبنانيين، وأن عليه وعلى منظمته والمجتمع الدولي من ورائه أن يأتي بترياق ينهي وصاية من وراء الحدود (مصدرها طهران) تُفرض بالسلاح لم تنهها سابقا (حين كان مصدرها دمشق) إلا إرادة دولية قاهرة. عندها فقط يحق لغوتيريش وغيره مطالبة اللبنانيين بحلّ يصنع في لبنان.