يحتفل العراقيون هذه الأيام بـ"مئوية الدولة"، أي مرور مئة عام على تأسيس الدولة العراقية، وقد انتبهوا لهذه الذكرى في الشهر الأخير من عام 2021، بدلا من الاحتفال بها في موعد التأسيس الحقيقي، وهو 23 أغسطس، الذي توّج فيه الملك فيصل الأول ملكا على العراق عام 1921.

ولكن أي دولة تلك التي نحتفل بذكرى تأسيسها؟ هل ينظر العراقيون جميعا، أو معظمهم، نظرة موحدة إلى هذه الدولة، ويشعرون بالفخر بها والحب والولاء والانتماء لها ويسعون لخدمتها وتعزيز قوتها؟ أم أنها مجرد كيان يمنحهم الأوراق الثبوتية ويوظف بعضهم ويحتضن خلافاتهم العميقة ويشرف على تناحراتهم العبثية وحروبهم المتواصلة؟.

الحقيقة أن الدولة العراقية ولدت كسيحة، فقد أسسها غرباء يبحثون عن سلطة ومجد، وفق نظريات وضعها لهم غرباء يبحثون عن هيمنة ونفوذ وموارد، بينما قاطع تأسيسها جهلة يقودهم غرباء، بتحفيز من غرباء طامعين، لا يريدون لدولة حضارية أن تقوم إلى جوارهم، وظل سكانها المختلفون دينيا وعرقيا وثقافيا ومعرفيا، أسرى للتقاليد والأوهام والخرافات والطموحات الطوباوية، تتجاذبهم الأهواء والأفكار والأيديولوجيات ذات اليمين وذات اليسار.

الدولة العصرية تسعى في العادة إلى جمع سكانها تحت سقف واحد وحول مبادئ وقيم مشتركة، بينما تُترك القضايا المختلف عليها خارج الإطار الرسمي، لتطرح في حيز المجتمع المدني. وكلما ازداد حجم القضايا المختلف عليها، ازدادت مساحة المجتمع المدني كي تتسع لها، وفي الوقت نفسه ترسخت المشتركات التي تهيمن على الفضاء العام للمجتمع والدولة.

لا شك أن معضلة الدولة العراقية بدأت منذ الأيام الأولى للتأسيس، فالقادة الجدد، كونهم غرباء ثقافيا وسياسيا وطبقيا، لم يفهموا طبيعة المجتمع ولم يدركوا القيم العصرية التي تقام عليها الدول، بل هم لم يأتوا ابتداءً لخدمة المجتمع الذي جاءوا لتزعمه وقيادته، بل جاءوا من أجل أن يؤسسوا سلطة ومجدا عائليا بمساعدة دولة محتلة، ووفق نظرية تأريخية بالية، ساهمت بدورها في تأجيج نظريات تأريخية بالية أخرى مناقضة لها.

عندما تأسست الدولة العراقية، انتعشت معها النزعات الانقسامية والانفصالية، خصوصا وأنها تأسست على أنها دولة عربية، دون اكتراث للمكونات القومية الأخرى، وهي الكرد والتركمان والآشوريون والكلدان، ودولة إسلامية، دون الاكتراث لغير المسلمين من المسيحيين والأيزيديين والصابئة واليهود (وكان عددهم يقارب مئة وخمسين ألفا في بداية القرن الماضي حسب إحصائيات).

كان تجاهل حقوق الكرد القومية خطأ جسيما ارتكبه المؤسسون والقوى الدولية الداعمة لهم، ومهما كانت التبريرات لحرمانهم من حق إقامة دولة تمثلهم وتحمي حقوقهم القومية والثقافية، فإن حرمانهم من إقامة حكم ذاتي يمكنهم من الحفاظ على هويتهم القومية والثقافية، لم يكن مبررا ولا معقولا.

وفوق هذا الحرمان، تعرض الكرد في العصور الجمهورية المتأخرة إلى القمع والتهجير والقتل والإبادة بالأسلحة المحظورة، بينما عجز العالم عن إنقاذهم حتى عام 1991، بعد احتلال الكويت وإخراج العراق منه، واندلاع انتفاضة آذار في الشمال والجنوب، فشاهد المجتمع الدولي بأمهات عيونه فرار السكان الكرد، أطفالا ونساءً وشيوخا، إلى الجبال في ظروف مناخية قاسية، خائفين من انتقام سلطة بلدهم منهم. ولم يكن المنتفضون العرب أفضل حالا من الكرد، فقد لاقوا شتى صنوف القتل والقهر والإذلال، وتلك المقابر الجماعية في الشمال والجنوب تشهد على تلك القسوة المفرطة.

في الوسط والجنوب تصدى لقيادة المجتمع من لا يفقه في السياسة وإدارة الدولة وظهر قادة متشددون وغير سياسيين، بنوا أفكارهم وفق نظريات دينية متشددة لا تنظر إلى مصلحة الناس، وإنما إلى تطبيق النظرية الطوباوية التي يؤمنون بها، ولا تكترث إلى احتمالات تحقيق إنجاز ينفع الناس على أرض الواقع، فهذا الأمر ليس مهما في نظرهم، والمهم بالنسبة إلى أصحابها هو السير في هذا الطريق بأي ثمن، من أجل نيل الأجر الرباني، الذي يعتقدون، لسبب أو لآخر، بأنه مضمون باعتبار أن نظريتهم صحيحة ومسددة من الخالق جل وعلا.

هناك رجال دين دعوا شريحة كبيرة من العراقيين إلى مقاطعة مؤسسات الدولة، بما فيها المدارس! وكانت النتيجة أنهم ساهموا في تخلف المجتمع الذي كانوا يدّعون تمثيله. وبدلا من أن يرعووا ويعدلوا عن مسارهم الخاطئ وعدم إجادتهم العمل السياسي وطرق بناء الدولة، ابتدعوا قضايا أخرى لاحقا، وأخذوا يبثونها ويثقفون البسطاء بها، ما قاد إلى تقسيم المجتمع وإضعاف الدولة، كالمظلومية والتهميش، وهما وقعا بسبب نهجهم الخاطئ وتصديهم لمهمة هم ليسوا أهلا لها، خصوصا وأن كثيرين منهم غير مطلعين على ثقافة المجتمع ولا يعرفون أساسيات ومقومات الدولة الحديثة.

لو كان هؤلاء قد حكَّموا ضمائرهم، وعادوا إلى دينهم الذي يأمرهم بـ (دفع المفاسد وجلب المصالح)، واستعانوا بخبراء في السياسة والعلاقات الدولية كي يعرفوا ما يجري، لأدركوا بأن ما يفعلونه ضار بالدولة، ويلحق ضررا ماحقا بالناس جميعا، لأن الدولة تحتضن الجميع وتحميهم وتخدمهم، وإذا ما ضعفت أو تهرأت، فإن الجميع سيتضررون.

صحيح أن هناك قصورا ثقافيا لدى سكان العراق في تلك الفترة، فالتعليم كان غائبا، لكن معظم دول العالم الثالث مرت بمراحل مماثلة، بل مرت بظروف أسوأ، ومع ذلك، برز فيها سياسيون أكْفاء وقادة محنكون قادوا المجتمع إلى تأسيس دول ترسخت أسسها بمرور الزمن، لأن أولئك القادة نظروا بعقلانية إلى إمكانياتهم ومصلحة شعوبهم، ولأن الشعوب ارتضت قادة محنكين قادرين على الخدمة.

ظلت الدولة قلقة بسبب اشتداد الانقسام والتشتت والتناحر بين السكان نتيجة لسياسات القادة غير المسؤولة وجهلهم بالعمل السياسي، لذلك شعر البعض بالحاجة إلى تأسيس دولة أخرى، بينما ظلت شريحة مهمة متمسكة بالدولة الحديثة، ساعية إلى ترسيخ هوية مشتركة للسكان، ولكن بطرق تقليدية، بعضها بدائي. لكن شرائح أخرى كانت تنتمي إلى عصر ما قبل الدولة، فانتماؤها الأول والأخير ظل للطائفة أو الدين أو القبيلة، أي أن أعضاءها لا يؤمنون بالدولة الحديثة، التي لها كيان مستقل بحدود جغرافية محددة، ولها سيادة وقانون واقتصاد ومصالح قد تتعارض مع مصالح وتوجهات الدول الأخرى، فظلت منكفئة في الماضي السحيق، الذي كان معظمه متخيلا ولا أساس له على أرض الواقع.

إلا أن الكارثة الكبرى حلت بالعراق بوصول صدام حسين ومجموعته إلى السلطة في أواخر ستينيات القرن الماضي، والذي تزامن مع حصول الفورة النفطية في السبعينيات. فأصبح لدى العراقيين مشكلتان معقدتان في آن. دكتاتور لا يشعر بالمسؤولية ولا يكترث لإراقة الدماء وشن الحروب، مسنودا بطبقة سياسية طائعة ومستسلمة، وأموال طائلة يستخدمها حيث يشاء، فأنفقها على التسلح والحروب والتجسس على المواطنين وقمع الناقدين والمعارضين وأصحاب الرأي.

وعلى مدى 30 عاما من حكم الفرد الواحد المتهور، تعمقت مشاعر الشك بين عراقيين كثر حول سلامة الأسس التي أقيمت عليها دولتهم، وحول إمكانية التعايش بين سكانها، فنظام صدام سعى بقوة وعنف لأن يفرض نمطا صارما من التعامل، غير مألوف في أي دولة طبيعية، ما دفع كثيرين إلى الهجرة والمعارضة، أما من بقي في الداخل فقد عاش خائفا حذرا غير متيقن من مستقبله. لقد عادت الطوائف والأقوام العراقية إلى عصر ما قبل التأسيس، إلى الكهوف والمضارب والطواطم، وذهبت أدراج الرياح كل الجهود التي بُذلت في السابق لتعزيز الهوية الوطنية وتوحيد الانتماء للدولة.

ومن الإنصاف القول إن جهود بناء الدولة نجحت جزئيا، إبان العهد الملكي والعد الجمهوري الأول، وبدأ غالبية العراقيين يشعرون بالانتماء إلى دولة واحدة، لكن بقاء بؤر التشكيك والقلق، وفشل الدولة في بسط سلطتها على الجميع وتحييد الجهات التي تزاحم سلطتها، جعل احتمال العودة عن التمسك بالدولة ممكنا. ومنذ عام 1979 وحتى 2003، تأسست جماعات طائفية وقومية مسلحة، ارتبطت بدول أخرى وسعت لتنفيذ أجنداتها في الهيمنة على العراق سياسيا واقتصاديا، واستخدامه لتحقيق مآرب ونفوذ ومصالح بعيدة الأمد.

دولة ما بعد 2003 هي دولة بالاسم فقط. فقد تضاعف فيها عدد الجماعات الطائفية المسلحة، التي أحكمت قبضتها على موارد الدولة ومؤسساتها، وسعى المتحكمون بها إلى تقسيمها وإقامة دويلات محلها، أو الأسوأ، إلحاقها بدولة أخرى، أو جعلها تابعة لها. وقبل هذا وذاك، أضعفوها ونهبوا مواردها ومزقوا شعبها ومازالوا مصرين على هذا النهج التخريبي، الذي يواصلونه باسم الدين والوطنية والمقاومة.

هذا لا يعني أن سكان العراق المغلوب على أمرهم يؤمنون بأي من هذه الخيارات. معظم الشباب يريدون دولة عصرية لا تنظر إلى الوراء بل إلى المستقبل، تتعامل مع أفراد الشعب على أنهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، وتقيم علاقات متكافئة ومثمرة مع دول العالم، وتدير اقتصادا متناميا وقادرا على توفير العيش الكريم للمواطنين.

لكن القوى المسلحة مصممة على البقاء، ولو بقوة السلاح والدجل والأكاذيب والتشدق بالدين. فهي تحتج على نتائج الانتخابات لأنها لم تفُز فيها، بسبب رفض الشعب لها، لإجرامها وتبعيتها للأجنبي، وعدم احترامها للدولة ومؤسساتها وعلاقاتها الخارجية. تهاجم السفارات الأجنبية بناء على أوامر من خارج الحدود، وترتبط بـ (محور المقاومة) العابر للحدود ثم تدعي ارتباطها بالقوات المسلحة العراقية، ويتقاضى أعضاؤها رواتب مجزية من الدولة! ولا أحد يعلم ماذا تقاوم، ولماذا، ولكن الجميع يعلم بأنها ذريعة لخداع البسطاء، والبقاء طابورا خامسا يعمل لصالح دولة أخرى ضد العراق.

لا يمكن الحديث عن دولة حقيقية اليوم في العراق مازالت هناك مليشيات وقوى سياسية تزدهر على نهب المال العام وتتباهى بالخطف والقتل والتبعية لدولة أخرى. ولا يمكن الحديث عن دولة تسود فيها قوى تنافسها في مهامها، من امتلاك السلاح وممارسة العنف، إلى إقامة علاقات مع دول أخرى على حساب الدولة، إلى فرض الضرائب على السكان، وإقامة المحاكم والسجون وشن الحروب الخارجية والداخلية، وتأسيس نظام تعليمي مناقض للنظام التعليمي الرسمي.

خلال العامين الماضيين، قُتل وخُطف وجُرح آلاف العراقيين الأحرار من أهل الرأي المختلف على أيد القوى المسلحة، بينما بقيت الدولة تتفرج، ولم تكشف عن القتلة أو الجهات التي أمرتهم بالقتل. فإن كان المسؤول عن القتل والخطف معروفا في الدولة السابقة، فإن المسؤولية ضاعت كليا في الدولة الحالية، وأصبح هدف العراقيين معرفة من الذي أوغل في قتلهم وخطفهم ونهب أموالهم وأضعف دولتهم.
إن كانت الدولة السابقة غير منصفة، وتميِّز بين مواطنيها، وإن بدرجات محدودة، فإن الدولة الحالية ممزقة ومتعسفة وظالمة لمواطنيها وفاشلة في أداء مهامها، وقد أصبحت عبئا على شعبها والمنطقة والعالم. الدولة الحقيقية هي التي تتمكن من تفعيل القانون وبسط سيادتها على أراضيها، وتقديم الخدمات الأساسية وصيانة الحريات ومعاملة المواطنين على قدم المساواة. لكن هذا لن يحصل حتى تتمكن من القضاء على الجماعات المسلحة الخارجة على القانون، وحظر استغلال السياسيين للدين واستغفال الناس واستغلالهم باسمه.

عمر العراق الفعلي 7500 عام، واسمه محفور في الصخر، وحضاراته يفتخر بها كل بني البشر، ومهما حاولت قوى طارئة متخلفة ومارقة أن تختطفه وتتحكم به وتسلمه إلى دولة أخرى، فإنها لن تفلح، وسوف تندحر في النهاية لأنها تناطح ما هو أقوى وأبقى منها. إن لم يعُد الضالون عن غيهم، فإن قوى الشعب المتمسكة بالدولة سوف تكتسحهم، وحينها يمكن العراقيين أن يحتفلوا بدولة قوية متماسكة.