«لقد أهديتني، العافية، يا إلهي، وبدل أن أسخّرها لخدمتك، أضعتُها في الباطل» «بليز باسكال».
(كلمة المؤلّف، كمتحدّث رئيسي في جلسة افتتاح المؤتمر الخامس للمجلس العربي للعلوم الإجتماعية، المنعقد بالدار البيضاء. المغرب في 2 ديسمبر 2021).
كلّنا نسعى لتغيير ما بالواقع، الواقع الذي نسكنه، ولكن قلّة منّا اختارت أن تسعى لتغيير ما بالواقع، ولكنه الواقع الذي يسكننا، لأن التجربة برهنت أن الواقع الذي نسكنه غنيمة، أمّا الواقع الذي يسكننا فهو القيمة.
وعندما يُقال أن جيلنا محظوظ، لأنه وُلد مع استقلال وطنٍ مجبول بلعنةٍ دهريّة ختمته بالتراجيديا، مثل ليبيا، فلم يعش نزيف الآباء في سبيل إبداع فصول هذا الإستقلال، بيد أن هذا الحظّ، لا يلبث أن يبطل بحكم الواقع، الذي نصّب جيلنا في خانة البرزخ، الواقع بين قطب آباءٍ ضحّوا، في سبيل الخلاص، وأحفادٍ أبوا إلّا أن يدفنوا الخلاص، عندما شاءوا أن يدفنوا الوطن، الذي من أجله تحقق الخلاص، ليكون جيلنا، جيل البرزخ، جيل الوسط الذهبي، أو المفترض أن يكون ذهبياً، هو الجيل الضائع، المشفوع بقدر الضحية، في نظرية ابن خلدون عن نشوء الدولة، التي تقوم بفضل الآباء، فتتضعضع على يد الأبناء، لتزول بيد أبناء الأبناء!
فنحن، جيل الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، المسئول في الواقع عن التمهيد لزوال الدولة، كي يتمكّن أبناؤنا من إزالة الوطن نفسه من خريطة الواقع الجغرافي، بوحي من إدماننا نحن لما كان دوماً إفيوناً في حياة الأمم، كما الحال مع: التغيير.
والواقع أن الهوس بالتغيير لم يكن ليتمكّن من افتراس بُنية الدولة بهذه الكفاءة، لو لم تهرع لنجدتنا الأيديولوجيا القومية، المحمومة باحتكار الحقيقة، القادمة من المشرق، لتغذّي في الجيل الهشّ روح تمرّدٍ هو، بحكم حداثة العهد بالوجود، من الطبيعي أن يكون فيه الحلم رأسمال؛ الحلم بخلاصٍ ذي بُعد غيبيّ، خلاصٌ مجبولٌ بالشعر، ولذا فهو فتنة، هو مثال، وأن يكون مثالاً فهذا سيعني أنه قدس أقداس. فلا يعود السؤال عن حقيقة التغيير مطروحاً، في واقعٍ محكوم بالطيش، ولكن التغيير يغدو هو الغاية. التغيير منذ الآن هو المعبود، الذي تهون في سبيله التضحية بذلك الإستقرار، الذي يدري الآباء وحدهم كم هو فردوس، بل والتضحية بالسِّلم، الذي لا يدري سوى الآباء كم هو خلاص، ثم التضحية بالتنمية، كسليلٍ شرعيٍّ لأبوين حميمين هما: الإستقرار والسلم!
يحدث هذا في عالمٍ بكر، عفويّ، وُلد من طينة البريّة، يجهل كم هو هذا التغيير حسناءٌ لعوب، أقبلت على الواقع الهشّ دسيسةً خبيئةً في مناهج المدارس، أوحت بها رطانات إذاعة «صوت العرب» المشحونة بمنطق شعاراتٍ جنونية، كان لها مفعول السحر في وجدان أبناء جيلٍ لم يتردد في إشعال الحرائق في جسد وطنٍ برّيٍّ بريء، مسكونٍ بمفهومٍ آخر لثنائي الخير والشرّ، قبل أن تتدخّل جنيّة لئيمة هي الأيديولوجيا، لتوقظ فيه شكوكاً بشأن هويّة وهميّة، تغدو حجّةً، تبيح التضحية لا بوجود الدولة وحدها، كما حدث في أوّل سبتمبر 69 م، ولكن التضحية بوجود الوطن برمّته، كما هو مترجَمٌ في حرف فبراير 2011 ، ليجني الآباء المؤسّسون في الصفقة صدمةً، وجيلنا الخائب خيبةً، والجيل البديل ضياعاً، ليضيع، بضياع الجيل، الوطن الذي لم يكن وطناً ككل الأوطان، ولكنه الوطن الذي استنزل فيه أبو التاريخ هيرودوت طينة الوطن، الذي كان له الفضل في الجود على ثقافة أمّة الإغريق بكلّ ما متّ بصلة للحقيقة، بدايةً بالآلهة، مروراً بالقيم الأخلاقية، ونهايةً بتقنيات الحياة الدنيوية، دون أن تشفع له هذه المنزلة في تنزيهه من بليّة الانتماء إلى حرم المأساة، المترجمة في حرف «ملبومينا»، ربّة التراجيديا في تاسوع آلهات الفنون، التي عنوَن بها عرّاب تاريخ ما قبل التاريخ كتابه عن أحجية التاريخ: ليبيا! ليرث خلَفَه أرسطو هذه الشهادة في عبارته الشهيرة: «من ليبيا يأتي الجديد». فلن نعجب أن يكون لهذا الوطن شرف احتضان أول عمل روائي في التاريخ، وهو «الجحش الذهبي» لمؤلّفه أبولّيوس من مدينة صبراتة.
ألهذا السبب يا ترى صارت ليبيا العنقاء التي أوتيت القدرة على بعث نفسها من رماد حريقها كل مرة؟
أفلا نملك الحقّ في أن نطرح سؤالاً مرجعياً، في حمّى بحثنا عن حقيقة هذا العالم، من خلال الظمأ الوجداني لتغيير ما بالعالم، فلا نكتشف، إلّا بعد فوات الأوان، أن حمّى هذا التّوق لتغيير ما بالعالم، ما هو إلّا تعبيرٌ عن شغفنا الجنوني بتغيير ما بأنفسنا في الواقع، ما دمنا نؤمن بأننا نحن القطب في هذا العالم، وما عالمنا سوى انعكاسٌ للحقيقة، التي تسكننا، وعلاقتنا به لن تكون أكثر حميميّة من حميمية علاقتنا بالأمكنة، التي نتوهّم أن قيمتها في أننا نسكنها، إلى أن نكتشف أن الأعظم شأناً من المكان الذي نسكنه، هو المكان الذي يسكننا، لأن المكان الذي نسكنه مجرد مكان، ولكن المكان الذي يسكننا فردوس. ولا يتحوّل المكان، في تجربتنا الوجودية، وطناً ما لم يتحمّم بهذه الحميميّة التي تستوطننا؟
أفلن يكفينا دليلاً في شأن أسبقيّة تغيير ما بالنفس على تغيير ما بواقعنا، تجربة تلك الفئة التي استطاعت أن تحقق أعجوبة تغيير ما بالعالم، بالتمرّد على طبيعتها، باغتيال إنسان في نفسها، لتحيي إنساناً آخر، لتحقق بهذا القربان معجزة تغيير ما بالعالم، كحال الأنبياء وعظماء الإصلاح البشري، في حين أجرمت في حقّ عالمنا، الفئة الأخرى، التي أعجزها أن تغيّر ما بنفسها، ففتّشت عن حقيقتها الضائعة في واقع عالمٍ هو باطل، محاولةً تغيير ما بعالم الباطل، على طريقة الغزاة الأسطوريين؟
فالتغيير دوماً هو المغامرة التي تطرح التحدّي، الذي لن نضمن ألّا تستدرجنا فيه الأيديولوجيا الواعدة بفتنةٍ، هي منزلة الأبعاد القصوى، فنقبل باستبدال نظامٍ محتمل، بنظامٍ مهووسٍ، كثيراً ما يغرينا كي نستمريء الانتحار، المترجم في حرف حربٍ أهليّة، لنجني، بهذا الطيش، انهيار التميمة السحرية، التي كانت منذ الأزل ضمان حضور الإنسان في حضرة أخيه الإنسان، لتغدو في مفهوم الأمم قدس أقداس، كما الحال مع: وجود الدولة، لأن بغياب الدولة من واقعنا، لن نملك إلّا الفرار إلى ذلك العهد الذهبي الغابر، السابق على انقسام القبيلة الإنسانية إلى نصفين: نصفٌ راحل، ونصفٌ آخر حطّ الرحال في المكان، ليمسي أسير المكان. أي العودة إلى فردوس الزمن الضائع، الذي كان فيه الإنسان يحمل دولته على ظهره، مهدهداً في القلب حريةً قصوى، فلا يُقهر أبداً، لاستحالة إستعباد أيّ مخلوقٍ اعتاد أن يحمل على منكبيه بيتاً، مختزلاً دولته في بيته المحمول، ليبقى معصوماً من الحاجة لوجود تغيير، لأنه يحيا واقعاً ميثولوجيّاً، واقعاً مثاليّاً، في ظلّ زمن ميثولوجيٍّ أيضاً. وعندما أقول زمنٌ ميثولوجي فهذا سيعني أنه زمنٌ غير قابل لقسمتنا الكلاسيكية. وهو ما يجاهر به واقع الصحراء الحرفي، المستنكر للتغيير من حيث المبدأ. فلا وجود لشيء في الصحراء قابل لأن يتغيّر، اللهمّ إلّا الصحراء نفسها. لأن ما هي الصحراء إن لم تكن روح العالم التي تجسّدت، وما هو عالم العمران إن لم يكن الروح التي اغتربت؟ ولمّا كانت الصحراء مسكونةً بروح. مسكونةً بروح الروح، ملفّقة من طينة الروح، فإنها أضحت المجال الوحيد، القابع تحت قبّة السماء، المستغني عن معبود التغيير. ولهذا السبب اصطفى القدّيس أوغسطين سلالة الانسان الراحل ليخلع عليها لقباً جليلاً هو: «القبيلة الإلهية»، في مقابل لقب «القبيلة الدنيوية» لإنسان العمران. لأن الرهان في المعادلة هو الموقف من الحرّية، والدليل هو النبوءة التي كانت دوماً فاكهة إنسان الرحيل. ولذا فهو في غنىً عن بدعة ما نسمّيه ثورة، اللهمّ إلّا حاجته كإنسان للثورة على نفسه!
فالهجرة للبسطاء، كما للأنبياء، حصانةٌ من قدر ما نسمّيه تغييراً.
وهو ما يعني أن إنسان العمران، هو الذي استجار بالعبوديّة طوعاً، يوم اختار المقام بجوار أخيه الإنسان، لينصّب الأرض على نفسه سلطاناً، مسلّماً زمام أمره للعلاقة. علاقة قد تجير من غول الاغتراب حقّاً، ولكن الثمن المستوجب في حقّها جسيم، وهو التنازل عن تلك الحرية، التي لن تكون هنا سوى اعترافٌ صريحٌ بضعفٍ. اعترافٌ بعجزٍ. اعترافٌ بهزيمةٍ؛ لأن الأحرار وحدهم ليس لديهم ما يفقدون، ولذا هم، في الصفقة، طرفٌ أقوى!
ولو استطاع مريد العمران أن يتحلّى بنصيبٍ ولو قليل من شجاعة، لقنع بالتغيير، كأتاوة ملزمة، حتّى في صيغته الأسوأ، مادام قد ارتضى التنازل عن بطولة الحضور في حرية أبديّة، كما يضمنها إدمان الإرتحال بوصفه التغيير، المفروض بسلطة واقع طبيعي، يحظى فيه المريد بتحريرٍ غيبيّ، لا يخلو من روح الشعر، ولكنه أقسى مفعولاً، لأنه فكٌّ خالد للارتباط بأحبّ ما في الوجود، وهو: الوطن!
لذا فالإنسان الذي اختار المكان، ليدسّ فيه سحر ما أسميناه وطناً، ليس له إلّا أن يقنع بذلك الجنس من التغيير، الذي لا يلبث أن يسفّه ما قام من أجله، عندما ينتصر، لأن الثورات لم تُخلق لتحقق أحلامنا، ولكنها خلقت لتخذل توقعاتنا، برغم فظاعة التضحيات المدفوعة كثمن، والتي ليس على المريد أن يأسف عليها، حتّى لو أصابت القيم بمقتل، مهما وجد نفسه في موقف شاهد العيان على هذه القيم، وهي تتعرّض للدَّنَس، على أيدي الفرسان الجدد، إذا شاء ألّا يُصدم، وهو يرَى ما حسبه هبّةً قدسيّة للإنتصار للقيم، فإذا به يتحوّل مجرد معمعان حربٍ، الفوز بالغنيمة فيه هو الغاية، فلا يملك، من هول الحريق، إلّا أن يتغنّى بفضيلة الإصلاح الضائع. الإصلاح الذي كان خياراً متاحاً دائماً.
فما يجب أن نعترف به هو أن مجتمعاتنا لم تُمنَح الفرصة لكي تحيا وجودها في ظلّ سلطة مدنيّة، لأن واقع أوطاننا، طوال مراحل هيمنة الأنظمة المؤدلجة هو واقع معسكرات. معسكرات محكومة فعليّاً بقوانين طواريء. والفرد فيها يحيا مزموماً، محموماً، منتظراً حدوث ما يمكن أن يجود به واقع يهدّد بنشوب حربٍ في أيّة لحظة. أي إنتظارٌ نفسيّ لحدوث تحوّل مجهول، يحيل النشاط اليومي إلى حضورٍ في كابوسٍ ديموميّ، توقُّع الخلاص فيه يغدو حلماً، يغدو هاجساً، هاجسٌ لا ضمان ألّا ينقلب عُصاباً. ولا أحسب وجود شقاءٍ يمكن أن يقارن بشقاء إنسانٍ يفني العمر كلّه منتظراً تحوّلاً، منتظرا منعطفاً، منتظراً قارعةً، طمعاً في معجزة خلاص. وكانت هذه الحروب تنشب فعلاً، تنشب لأن قادة المعسكرات كانت تطلبها، تطلبها لتبرّر وجودها، لتضمن استمرار العمل بقوانين الطواريء، ولا تستيقظ من غيبوبتها حتى عندما تسفر حروبها عن هزائم، لأن لا وجود لأبرياء في منطق قانون الطوارئ. فالبريء هنا أيضاً متّهم، متّهم حتى لو ثبتت براءته، متّهم حتى لو لم يوجد جرم، كما في نموذج كافكا تماماً. والخسائر التي يخلّفها واقع من هذا القبيل، في نفوس الناس، تفوق في مفعولها النكسات الاجتماعية، أو الاقتصادية، لأن الثمن هنا هو: الإغتراب!
الاغتراب لا عن الإحساس بالمواطنة وحسب، ولكن الاغتراب عن الإحساس بالوجود.
هذا الإحساس تراجيدي بالطبع، والفرد فيه لا يملك إلّا أن يتبنّى موقف المُعارض. المعارضة لا في مفهومها الحرفيّ، ذي الماهيّة السياسية الشائعة، ولكنها المعارضة كقناعة معرفية، مبدئية، تسري في وجدان كل مريد حقيقة، أي أنها المعارضة في العلاقة مع كل نظامٍ أرضيّ، لأنها موقفٌ وجوديّ. فناموس الحرية الممنوح لنا بالطبيعة، هو الذي يُملي أن نعتنق دين المعارضة حتى في حقّ تلك الأنظمة التي اخترناها لأنفسنا، لأننا لن نضمن ألّا تنقلب علينا في اللحظة التي تأمن فيها حجّتنا. أي أنها معارضة مبدئية، أبدية. وأن تلهمنا موقفاً وجوديّاً في العلاقة مع واقعنا، فذلك لن يعني سوى التحلّي بالروح الفلسفية، بالروح السلمية، التي لن تبخل بالقرابين في سبيل ضمان حقن الدمّ، وإلّا انقلب موقفنا عدميّاً، منافياً للقوانين الوضعيّة، فكيف بالقوانين الإلهيّة، كما برهنت تجربة الرسالات النبويّة على سلطة السّلْم في تحرير الواقع الإنساني، دون الإحتكام إلى العنف؛ لأن ما لا يُغتفر في معجم الغيوب، هو الخلاص المشفوع بنزيف دمّ؟