في المجتمعات والدول السابقة للعصر الصناعي، عندما كانت المعرفة محدودة والتعليم مقتصرا على شريحة صغيرة من الناس، وسلوك الأفراد يقرره المجتمع حصرا، كانت الحكومات بكل تنوعاتها المعروفة تقوم بدور الأب للشعوب والأب القاسي جدا على أبنائه أحيانا.
فالحكومة ترعى أحوال الرعية وترشدهم إلى الطريق (القويم)، بل تجبرهم على سلوكه، وتمنعهم من السير في طريق آخر، أو حتى التفكير بحرية، فكل شيء مقننٌ ومرسومٌ من فوق، باعتبار أن أفراد المجتمع قاصرون عن معرفة ما ينفعهم وما يضرهم، وهم بحاجة دائمة إلى النصيحة والمشورة والإرشاد والتوجيه، لأداء واجباتهم، ومعرفة الصالح والطالح في حياتهم.
وقد تبنت الحكومات التقليدية في القرون اللاحقة للعصر الصناعي، خصوصا الأنظمة التسلطية والشمولية منها، وكذلك الأنظمة الشيوعية التي حكمت بعض دول أوروبا وآسيا وأميركا الجنوبية إلى عهد ليس بعيدا، فكرة (الأبوية) وساست شعوبها على هذا الأساس.
أخبرني أصدقاء من بلغاريا ورومانيا أن الشرطة، إبان الحِقْبة الشيوعية (الأبوية)، كانت تلاحق الشباب وتضيق عليهم في الأماكن العامة والخاصة، كي تمنعهم من إقامة علاقات تعتبرها (غير أخلاقية)! أي أن السلطة كانت تُنَصِّب نفسها رقيبا أخلاقيا (أبويا) على الناس وتتدخل حتى في الشؤون الشخصية التي لا تعنيها.
لكن تطور تجارب الشعوب والتقدم الذي طرأ على علم السياسة وعالمِها، وانتشار التعليم والمعرفة، وحصول معظم الشعوب على حرياتها الأساسية، قد ساهمت كلها في تحويل وجهات النظر السياسية في فكرة (الحكومة الأبوية)، من اعتبارها رعائيةً إصلاحيةً هادفةً إلى حماية المجتمع وتحقيق أقصى النفع له، إلى ازدرائيةٍ فوقيةٍ اضطهادية، تفرض رؤى الساسة والمتنفذين في المجتمع، وأفكارهم وأديانهم ومذاهبهم على الرعية، وتجردهم من حق الاختيار.
السياسي والمفكر الإنجليزي، جون ستيورات ميل، الذي عاش في القرن التاسع عشر، عارض فكرة الأبوية ورأى فيها انتقاصا لحرية وكرامة الإنسان، واعتبر أن الأفراد الأسوياء في المجتمع، أعرف بمصالحهم الشخصية من المؤسسة الحاكمة، وأن على الحكومة الا تتدخل في شؤونهم، سوى تقديم المعلومات والتعليمات التي تخص المجتمع ككل، ووفق القوانين التي يرتضيها المجتمع ويقرها. ويستثني ميل من هؤلاء الأشخاص الذين لديهم ميل للإضرار بأنفسهم، فهؤلاء يجب أن يُمنعوا من إيذاء أنفسهم.
ويضرب ميل مثلا على كيفية التعامل مع الشعب، فيقول إن كان هناك جسر مدمر، فإن واجب السلطات أن تقدم هذه المعلومة للناس عبر الوسائل المتبعة، فإن قرر أحدهم أن يستخدم الجسر رغم عيبه المعلوم لديه، ويغامر بسلامته، فمن حقه أن يفعل ذلك!
طبعا، المجتمع الحديث تجاوز هذه الأفكار، وذهب أبعد منها كثيرا في منح الحرية الكاملة للأفراد في الشؤون الشخصية والسلوكيات الفردية التي لا تؤثر على المجتمع، ولا تهم سوى الأفراد المنخرطين فيها، كما دفع الحكومات إلى تقديم المزيد من الخدمات والمعلومات للمواطنين، فأصبح من واجب الحكومات منع الناس جميعا، من الوقوع في التهلكة، فالجسر المدمر، مثلا، يجب أن يُغلَق كليا ولا يُسمح لأحد أن يقترب منه.
ومن هذا المنطلق، أقدمت حكومات العالم أجمع خلال العامين الماضيين على فرض إجراءات الإغلاق وفرضت قيودا صارمة على السفر والنشاطات الترفيهية والرياضية أثناء جائحة كورونا، وقد امتثل معظم الناس لهذه الإجراءات لأنهم يعلمون بأنها لمصلحتهم ووقايتهم من العدوى بالفيروس القاتل.
كما أن تطور القوانين، خصوصا المتعلقة بالتأمين، التي تشترط فرض إجراءات وقائية مانعة للضرر، منح شركات التأمين حق الامتناع عن دفع التعويضات عن الأضرار، إلا بعد التأكد من أن المؤمَّن عليه، قد قام بواجبه على أكمل وجه لدرء الأخطار والأضرار المحتملة الوقوع.
لكن التحذير يكفي للتنبيه إلى الطرق والممرات الزلِقة مثلا، أو إلى احتمال وجود حيوانات برية سائبة في الطرق الخارجية، وترك الخيار للناس لاتخاذ ما يرونه مناسبا. والأمر نفسه ينطبق على الأخطار المحتملة في البلدان الأخرى، فالحكومات والمؤسسات تقدم المعلومة والنصيحة لمواطنيها، لكنها لا تمنعهم من السفر إلى تلك البلدان إن كان لديهم أسباب موجبة ومصالح ملحة أو أشغال عاجلة تتطلب السفر.
المفكر الألماني المعاصر، توماس بوغي، يرى أن (الأبَوِّية) يمكن السماح بها في نطاق محدود، إن لم تكن تطفُّلية وفضولية، بحيث لا تُشعِر المواطن بأنها تنتقص من حريته وتؤثر على خياراته في الحياة. بينما يرى جون ستيوارت ميل إن (الأبَوِّية) ضرورية في التعامل مع من سماهم بـ(البرابرة)، أي الشعوب البدائية التي تفتقر إلى المعرفة بالعلوم والأساليب الحياتية الحديثة النافعة.
استُخدِمت فكرة (الأبَوِّية) في الولايات الكونفدرالية الأميركية، وهي إحدى عشرة ولاية جنوبي الولايات المتحدة، في القرن التاسع عشر لتبرير ممارسة العبودية على أربعة ملايين أفريقي، وكانت (الأبَوِّية) السبب الرئيسي للحرب الأهلية الأميركية، بين الولايات الجنوبية وولايات الاتحاد (الشمالية)، إذ رفضت الولايات الشمالية فكرة الاستعباد تحت أي مسمى، بينما كانت الجنوبية، التي سمت نفسها بـ(الكنوفدرالية)، تبرر العبودية بالقول إن الأفارقة الأحرار هم أكثر فقرا وبؤسا من الأفارقة العبيد، والفضل في ذلك يعود إلى الرعاية (الأبَوِّية) التي يتلقونها على أيدي أسيادهم البيض! وقد أعلنت الولايات الجنوبية انفصالها تزامنا مع انتخاب إبراهام لنكن رئيسا للولايات المتحدة، الذي كان يدعو في حملته الانتخابية إلى إلغاء العبودية، أو على الأقل عدم توسيعها إلى الولايات الشمالية، وبالتالي التخلي كليا عن فكرة (الأبَوِّية) المقترنة بالعبودية، لكن الانفصال لم يدُم سوى أربع سنوات، خصوصا وأن الحكومة الأميركية الفدرالية اعتبرته غير شرعي ومخالفا للدستور.
لم تعُد هناك دولة في العالم تتبنى (الأبَوِّية) في نظامها السياسي، حتى وإن عمل بها بعض الدول القلقة ذات الحكومات غير الراسخة، لأن (الأبَوِّية) اصبحت منافية للمبادئ العصرية التي تقوم عليها الدولة الحديثة، والتي تساوي بين المواطنين وتعتبرهم جميعا أهلا لاتخاذ القرارات التي تخص مصالحهم.
الذي يحصل في المؤسسات الأبَوِّية أنها تُنصِّب قادتها أوصياء وأولياء ومرشدين على الناس، لا يتركون صغيرة ولا كبيرة إلا وتدخلوا فيها، وهذا يتعارض مع قيم حرية الاختيار والمساواة والخصوصية وتكافؤ الفرص المعمول بها في العصر الحديث، والمتبناة رسميا في كل دول العالم.
الناس في هذا العصر بالغون وراشدون وأحرار مكتملو الأهلية، وهم بالتأكيد يعرفون مصالحهم الخاصة أكثر من الحكومات التي تسوسهم، لذلك لم يعودوا يقبلون بالنظام الأبَوِّي الذي يعني فيما يعنيه اعتبارهم قاصرين يحتاجون إلى الرعاية المستمرة من قبل الحكومة التي هي بمثابة الأب لهم، بدلا من أن تكون خادمة لهم، تدير شؤونهم وفقا لإرادتهم، وتحرص على مصالحهم، وتصون حقوقهم، التي يحصلون عليها قبل أن يطلبوها، ودون أن يضطروا للمطالبة بها.
واجب الحكومة العصرية هو توفير الأمن وحفظ النظام وتفعيل القانون وتنظيم العلاقات الداخلية والخارجية وتنظيم الاقتصاد وتقديم الدعم للموطنين عند الحاجة.
وبالتأكيد من واجبها حماية الناس من الأخطار الطبيعية أو البشرية، ليس بإرادتها وإنما بتفويض منهم، ولكن، عليها ألا تنصب نفسها (أبا) للشعب وألا تتصرف كذلك، لأن في ذلك إخلالا بمبدأ المساواة، وانتقاصا للحريات الأساسية، وطعنا في أهلية الإنسان البالغ الراشد لممارسة حياته كيف ما يشاء وفق القوانين المعمول بها. الحاكم هو ابن الشعب وليس أبا له.
من الغريب حقا أن نسمع أصواتا سياسية في العراق تطالب بحكومة (أبويِّة)، في بلد يفترض به أن يكون ديمقراطيا وعصريا ويعمل وفق مبادئ الدستور التي تكفل المساواة بين المواطنين وتصون الحريات العامة والخاصة، وتقر بأن الشعب هو مصدر السلطات. والأغرب من ذلك أن يطالب مدنيون بتشكيل حكومة (أبوية)، كما فعل النائب المستقل حسين عرب في حديث نقلته وسائل الإعلام أخيرا. قد تكون النوايا حسنة، لكن المبدأ خاطئ والمسعى خطير ويتعارض مع مبادئ الدولة الحديثة. (الأبَوِّية) تتناقض مع الديمقراطية والمساواة وقيم العصر، فالحكومة خادمة للشعب وليست أبا له. الشعب هو مصدر السلطات وهو الذي يأتي بالحكومة ويقيلها حسب الدستور. الشعب العراقي قدَّم تضحياتٍ جساما في سبيل الحرية والكرامة والمساواة والديمقراطية، وليس معقولا أن يقبل بوصاية (حكومة أبويِّة) عليه!