بدأتِ الثّقافةُ الغربيّةُ، الحديثةُ والمعاصرة، ثقافةَ نقدٍ وحوار. بُنِيَتْ نقديَّتُها على عقلانيَّتها ومركزيّةِ العقل فيها. وبُنِيَ الحسُّ الحواريُّ فيها (مع غيرها) على التّخفُّف من أعباء عقلانيّتها وما توحي به هذه من هواجسِ المركزيّةِ والمعياريّةِ لكلّ ثقافةٍ ولكلّ العالم.

ومع أنّ المنزِعيْن (النّقديّ والحواريّ) قد يتعارضان - وهما كذلك على الأغلب -، إلاّ أنّ الثّقافة الغربيّة كثيراً ما جمعتْ بينهما حين نَسَجَتْ علاقتَها بغيرها في صورة حوار نقديّ: حوارٍ مبنيٍّ على المناظرة وإرادةِ التّفاهُم، لكنّه مسلّحٌ بوعيٍ نقديّ مزدوج: للأنا وللآخر في الآن عينِه. وليس من شكٍّ في أنّ عقلانيّة الثّقافة الغربيّة - وهي صارمة - أوْرَثَتْها نزعتَها المركزيّة الذّاتيّة والكُلاّنيّة، غير أنّ انطلاقَ موجاتها النّقديّة، بدءاً بكَنْت وانتهاءً بالأنثروپولوجيا (مروراً بفويرباخ، وماركس، ونيتشه، وفرويد...)، فكَّك تلك المركزيّة وأعاد الاعتبار إلى الهوامش وإلى ثقافات أخرى مختلفة.

لو أخذنا مجاليْن دراسيّين في الفكر الغربيّ مثالاً، لَتَبَيَّن لنا إلى أيّ حدٍّ ساهما في رياضة ذلك الفكر على الإصغاء إلى ثقافات أخرى، وإبداء الاعتراف العلميّ أو الثّقافيّ بها؛ وكيف مَهَّدا لإشاعة روحيّة الحوار في بيئاتٍ ثقافيّة غربيّة عدّة، وأسَّسا لميلادِ حقبةٍ خصبة من التّثاقُف (التّبادل الثّقافيّ) بين الثّقافة الغربيّة وغيرها من ثقافات العالم المحيطة. والمجالان هذان اللّذان نعنيان هما: الاستشراق والأنثروپولوجيا.

الاستشراق أَقْدَمُ زمناً، لأنّه يعود إلى نهايات القرن الثّامن عشر ومطالع التّاسع عشر. وقد عُنِيَ بدراسات الشّرق (الإسلاميّ، الهنديّ، الصّينيّ والآسيويّ عموماً): تاريخاً، وأدياناً، وثقافاتٍ، ومجتمعات. وقد اقتضَتْه دراساتُه له، في جملة ما اقتضاه، الإلمامَ بلغات عالم الشّرق المتنوّعة وإتقانَ قراءة تراثاته بها، انطلاقاً من فرضيّةٍ حَكَمتْ وعيَ المستشرقين المتأثّرين، حينها، بتقاليد المدرسة التّاريخانيّة الألمانيّة، مفادُها أنّ اللّغة هي مفتاح "شيفرة" أيّ ثقافة. وبصرف النّظر عن أنّ بعض الاستشراق ذاك ارتبط بالمؤسّسة الكولونياليّة ووضَع نفسه في خدمة مشروعها وأهدافها، فإنّ أكثرهُ قدّم خدمةً علميّةً جليلة لشعوب الشّرق وثقافاتها، ونَفَض غبار النّسيان عن الكثير من تراثاتها، وأنجز دراساتٍ عدّة عنها في غاية القيمة العلميّة، واستفادت من دروسها المنهجيّة أجيالٌ عدّة من الباحثين في بلدان الشّرق.

على أنّ الاستشراق أفاد الغربيّين، أيضاً، عظيمَ الإفادة؛ فإلى أنّه أطْلَعَهُم على تاريخ مجتمعات الشّرق، وأديانها، وثقافاتها، ومنظومات قيمها الاجتماعيّة علَّمهم، في الوقت عينِه، كيف يُصغون إلى أولئك الذين يختلفون عنهم في القيم والمعايير والأذواق والحساسيّات الجماليّة؛ وكيف يفهمونهم ويتفهّمون البيئات التي فكّروا فيها وأنتجوا ما أنتجوهُ من علومٍ وآدابٍ وفنون. ولقد شكّل الاستشراق مزاجاً ثقافيّاً جديداً عند قسمٍ من المجتمعات الغربيّة باتَ (= المزاج) يَقْبَل الاعتراف بوجود عوالم وثقافاتٍ أخرى مختلفة بوصفها مشروعة، وتدعو إلى الإعجاب أو الاحترام. ولقد يمكن أن يقال إنّ "بروفة" التّثاقُف التي بدأها الاستشراق مع ثقافات الشّرق أنجبت ثقافة الحوار والتّبادل الثّقافيّ لدى أجيالٍ عدّة من الغربيّين: قرّاءً وباحثين، وأوجدَتْ لغةً مشتركةً بينهم وغيرهم ممّن يختلفون عنهم في المَنابِت وفي الخبرة الثّقافيّة والحضاريّة.

نَهَضَتِ الأنثروپولوجيا بالدّور عينِه الذي نَهَض به الاستشراق في ميدان معرفة الآخر. لكنَّ آخَرَ الأنثروپولوجيا كان في طـورها الدّراسيّ الأوّل، الإثنوغرافيّ والإثنولوجيّ، مجتمعـات أخرى - غير مجتمعات الشّرق - ليست لها تقاليد تراثيّة مكتوبة ومدوّنة (أغلبها في المجتمعات "البدائيّة" في أفريقيا وأمريكا الجنوبيّة). غير أنّها ما لبثت أن وسَّعت دائرة دراساتها فتناولت مجتمعات ذات موروث حضاريّ مكتوب. وكما ارتبط بعض المستشرقين بالمشروع الكولونياليّ، كذلك ارتبط إثنولوجيّون كثر بذلك المشروع. لكنّ الذي لا مِرْيَةَ فيه أنّ الأنثروپولوجيا هي أكبر مَن سدَّد الضّربةَ الموجِعة لعقيدة المركزيّة الأوروبيّة والغربيّة حين سلَّطتِ الضّوء على النّظم الاجتماعيّة والثّقافيّة المُحْكَمةِ الصّياغة، في المجتمعات التي درستْها، وكشفت عمّا تُضمِرُهُ من عقلانيّةٍ خاصّة ومن قيم المشاركة والمساواة في إدارة الشّؤون الحياتيّة واضعةً، بذلك، قِيم الغرب في الحدود النّسبيّة، نازِعةً عنها أوهام الشّمول والمعياريّة أو الكونيّة التي ادَّعتْها.

هكذا صارتِ الأنثروپولوجيا الموْرِدَ الثّاني الذي ستنهل منه إرادةُ الحوار والتّثاقُف في المجتمعات الغربيّة. بل لقد شَهِدنا، أكثر من ذلك، على حالٍ من التّعاطُف الشّديد مع شعوب أخرى في الجنوب من قِبَل أولئك الذين تأثّروا بالدّرس الأنثروپولوجيّ، وتحرّروا - إلى حدّ بعيد - من الشّعور الزّائف بالفَرادة والتّفوُّق والتّمركُز الذّاتيّ. ولقد تكون الحركاتُ الاجتماعيّة والسّياسيّة العالمثالثيّة في بلدان الغرب نموذجاً لتلك البيئات التي أحدثت فيها المعارف الأنثروپولوجيّة - والاستشراقيّة استطراداً- تأثيرات ملحوظةً على صعيد رؤيتها إلى الآخر وحوارِه، مثلما كان يوازيها إنتاجٌ فكريّ وفلسفيّ وثقافيّ رديف متشبّع بقيم الحوار والتّثاقُف.

غير أنّنا نشهد اليوم، ومنذ عقودٍ ثلاثةٍ خَلَتْ، على انتكاسةٍ مروّعة لهذا التّراث من الحوار الخصب، ولخطاب التّثاقُف في مجتمعات الغرب (كما في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة). انزلقنا سريعاً - وعلى نحوٍ دراماتيكيّ مخيف - من ضفّة الحوار والتّثاقُف إلى الإنكار والإنكار المتبادل؛ إلى ما "بَشَّرَ" به صَمُوئيل هِنْتِنْغتون من "صدام الحضارات". باتت الثّقافة الغربيّة - في هذه الحقبة من العَماء والكلام الموتور- أمْيَلَ إلى النّظر إلى آخَرها من قناةِ الهُوِيّات الصّغيرة: الدّين والجنس (= الإثنيّة) ونظام القيم الخاصّ، متماديةً في الابتعاد عن الأبعاد الإنسانيّة والمشتَرَك الإنسانيّ. وبادلتْها الثّقافاتُ الأخرى الموقفَ الخِصاميَّ عيْنَه فتشرنقتْ على "ماهياتها" الخاصّة الموروثة. هكذا وَلَجَتْ طورَ تبديد مكتسباتٍ إنسانيّةٍ رفيعة، كان الحوارُ والتّثاقُف أَظْهَرَ عناوينها، لتدفع غيرَها إلى ركوب الموجةِ عينِها دفاعاً عمّا يعتقد أنّه بات موضِعَ خطر!