تتميز انتخابات العراق بالتفرد والتميز عما يجري في الدول الأخرى، ليس من ناحية الشفافية والنزاهة والالتزام بأصول الديمقراطية وقيمها فحسب، بل لأنها لا تفضي إلى فائز وخاسر، ثم حكومة ومعارضة.
كما يحصل في انتخابات الدول الديمقراطية، بل تتمخض دائما عن احتجاجات وصراعات واتهامات متبادلة بالتزوير، ثم وساطات دولية ومفاوضات تنتهي عادة باتفاقات تتقاسم بموجبها القوى المتخاصمة، الفائزة منها والخاسرة، المناصب والمكاسب والمواقع في هذه الدولة الريعية المنكوبة.
المبدأ المعمول به في العراق هو أنك إنْ لم تفُز في الانتخابات، فإنها لا شك مزورة، ويجب أن تحتج عليها وتهدد مفوضية الانتخابات وتتهم أمريكا والأمم المتحدة، بتزوير الانتخابات، ثم تستعرض قوتك بتنظيم مظاهرات صاخبة واعتصامات مستمرة، وإن لم تجْدِ الأخيرة نفعا، فلا بأس في أن تجري استعراضا عسكريا في بغداد يُشهِر فيه عناصرك المسلحون أسلحتهم المتطورة وطائراتِهم المسيَّرة، كي تخيف بها خصومك وترهب الناس وتجعلهم يقبلون بأي حكومة مقابل السلام!
في كل انتخابات عراقية تتكرر هذه العملية، والمتغير الوحيد فيها هو أن أبطالها مختلفون، فالمحتجُ بالأمسِ يصبح اليوم مُحتجا عليه، ومزورُ الأمسِ يتحوَّل اليوم إلى ضحية للتزوير، وهكذا، فالعراق ليس فيه أحزاب حقيقية راسخة تضع برامج سياسية واقتصادية، تعرِضها على الشعب وتسعى إلى تحقيقها، وبدلا عن ذلك، لديه مليشيات مسلحة تفرض سيطرتها على المرافق العامة للدولة بالقوة، وتقتل وتخطف وتغيِّب كلَّ من يقف في وجهها أو ينتقدها أو يعترض على تجاوزاتها.
ومن لا يمتلك سلاح المسدسات والبنادق فلابد أن يملتك سلاح المال والسرادق، وهذا الأخير، وإن كان سلميا، فهو ليس قليلَ شأن، لكنك إنْ قَدِرت على الترهيب، فلماذا تلجأ إلى الترغيب؟ فالأول مجاني والثاني مكلِّف، حتى وإن كانت الأموال مسروقة من الناس ابتداءً، ولكن عملية السرقة اكتملت، ويمكن السارق أن يُبقي المال المسروق في جيبه إن امتلك السلاح.
والانتخابات في العراق متميزة في قضايا أخرى عديدة، فمعظم القادة إما معممون، أو معممون بلا عمامة، درسوا أصول الفقه وتأريخ الفتن والمحن في أرقى الحوزات العلمية وكليات الشريعة، وهم لا يتحدثون بما يشغل بال الناس، كما يتوهم البعض، أي بالأمور المهمة مثل سوء الخدمات والبطالة وانعدام الأمن وشيوع الفساد وانتشار أعمال القتل والخطف وممارسة الابتزاز والاستحواذ على ثروات البلاد من قبل النصابين والمزورين والفاسدين، بل يتحدثون عن الحلال والحرام وضرورات الدين وكيفية إنقاذ الناس من عذاب جهنم! وخير من يعبِّر عن حالهم هو كاريكاتير شهير يصوِّر شيخا يخطب في الناس قائلا (إذا صوَّتمْ لنا في الدنيا فسوف نصوِّت لكم في الآخرة)!
انتخابات عام 2005، مثلا، التي (فاز) فيها تحالف القوى الشيعية المسلحة، وبغض النظر عن الأساليب التي استخدمها هذا التحالف المفرط في الديمقراطية لـ(إقناع) الناس بالتصويت له، أسفرت عن تشكيل حركة (مرام) بقيادة الخاسرين في تلك الانتخابات، وهم أياد علاوي وعدنان الدليمي وصالح المطلك وآخرون. و(مرام) هنا لا تعني (طموح) أو (هدف) كما تعني الكلمة في الظروف الطبيعية، بل هو اختصار لاسم هذا التجمع السياسي العريض وهو (مؤتمر رافضي الانتخابات المزورة)!
وفي انتخابات عام 2010، كانت هناك احتجاجات واسعة ضد نتائج الانتخابات التي فاز فيها تحالف انتخابي بعنوان (القائمة العراقية)! وكأن القوائم الأخرى تنتمي إلى فيتنام أو كمبوديا! وكان يقود هذه الاحتجاجات الغاضبة على أمريكا والأمم المتحدة، رئيس الوزراء حينها، نوري المالكي! ولا أحد يعلم كيف تمكنت قوى المعارضة من تزوير الانتخابات؟ فالتزوير تقوم به الحكومة في العادة لأنها هي المسيطرة على مؤسسات الدولة وأجهزتها ويمكنها أن تسخِّرها لصالحها.
ولم تنتهِ الاحتجاجات بإجراءات إعادة العد والفرز اليدوي، لأنها لم تغير المعادلة ولم تحوِّل الخاسر إلى فائز، فتدخلت المحكمة الاتحادية، وهي محايدة ولم تخضع أبدا لرغبات رئيس الحكومة، كما يظن البعض من أمثالي، فأصدرت فتوى قانونية بجواز تشكيل القوائم بعد الانتخابات! الأمر الذي أدخل البلد في فوضى عارمة، فاحتدمت المداولات والإغراءات والاقتراحات والوساطات حتى تفككت القائمة (العراقية) إلى قوائم أخرى، بيضاء وخضراء وحمراء، انضم بعضها إلى تحالف رئيس الوزراء، ليمكِّنَه من تشكيل حكومة مكونة من 45 وزيرا، 12 منهم وزراء بلا وزارة، وحصل هذا بعد ثمانية أشهر من إعلان النتائج!
أما انتخابات 2014، التي (فاز) فيها المالكي، رغم كل الإخفاقات والاحتجاجات التي واجهتها حكومته، والتي لم تتمكن حتى من إقرار موازنة عام 2014، فلم تدُم فيها فرحة الفائز طويلا، إذ هاجمت عصابات داعش مدينة الموصل التي سقطت بأيديها بسهولة أسطورية، أين منها قصص الخيال العلمي، رغم وجود الآلاف من الجنود والشرطة فيها، والذين لم يصمدوا، حتى لساعات قلائل، بوجه تلك العصابات المتمرسة في الإجرام. ثم توالى بعد الموصل سقوط الفلوجة والرمادي وتكريت وسنجار وتلعفر ومناطق أخرى، حتى أصبحت داعش تسيطر على ثلث العراق! مع ذلك تمسك الفائز بفوزه، وأصر على أن يبقى في السلطة، في سابقة لم تحدث في التأريخ، أن يصر القائد المهزوم على البقاء قائدا، ومواصلة النهج نفسه الذي قاد إلى الهزيمة. لكن الفرج جاء من المرجعية الدينية التي نصحت باستبداله، بناء على رسالة بعث بها قادة حزبه، الذين ضاقوا ذرعا بزعامته وهيمنة أقاربه وأتباعه على مقدرات الدولة، فاستُبدِل برفيقه في حزب الدعوة، حيدر العبادي.
واجه العبادي صعوبات جمة، أمنية واقتصادية وسياسية، لكنه حظي أيضا بدعم عراقي وعربي ودولي غير مسبوق، فتمكن العراق في عهده من الخلاص من سيطرة عصابات داعش على المحافظات العراقية الثلاث، وإن كان ذلك بثمن بشري ومادي باهظ، نتج عنه تدمير الموصل بالكامل، وحتى الآن لم تبدأ الدولة بشكل جدي بإعمار ما خربته الحرب، ولم تتمكن من إعادة النازحين إلى ديارهم.
لكن العبادي هو الآخر توهم بأنه (قائد ضرورة) تماما كما فعل سلفه، وهذا الوصف أطلقه العبادي نفسه على سلفه، لائما إياه على إضاعة أموال العراق وتسليمه خزينةً خاوية، ليس فيها سوى 3 مليارات دولار، وظن بأن الطريق ممهدٌ أمامه لاكتساح الشارع والفوز بولاية ثانية، فتحالفَ مع خصومه، ولم يكترث لأنصاره وحلفائه الحقيقيين، وجاء بالفاشلين وعديمي الخبرة لإدارة حملته الانتخابية، ظانا بأنه فائز لا محالة، لكن قائمته لم تحصل سوى على 42 نائبا، انشق عنه 21 منهم ملتحقين بخصومه، ما أبقاه يتلفت يمينا وشمالا، باحثا عن أنصار.
وفي النهاية جيء بشخص غير كفوء، كان قد اعتزل السياسة (رسميا)، لكنه تحمس وشكل حكومة أشرفت على قتل 700 شاب محتج في ساحات بغداد والبصرة والناصرية وكربلاء والنجف والحلة والكوت، وجرح 30 ألفا آخرين، وأكثر من مئة مخطوف، ومع ذلك ظل متمسكا بمنصبه حتى أمره المرجع علي السيستاني بالاستقالة، وحينها بدأ السباق المحموم مرة أخرى لملء الفراغ، ولم تتفق القوى المتخاصمة على مرشح إلا بشق الأنفس، فتشكلت الحكومة الحالية وسط أزمات سياسية وأمنية وصحية واقتصادية خانقة. لكنها لم تتمكن من تحقيق أي من الأهداف التي وعدت بها، فلم تلاحق قتلة المتظاهرين، ولم تنجح في مكافحة الفساد، ولم تكترث للأزمة الصحية التي تفتك بالفقراء، بل زادت الفقر فقرا، ورفعت أسعار المواد الضرورية، عندما خفضت العملة العراقية بنسبة 20%. نعم أشرفت على إجراء انتخابات عام 2021 (المبكرة بستة أشهر فقط)، والتي تدور رحى المعارك حاليا حول نتائجها، لكنها فشلت في إقناع الناخبين بالتصويت، فعزف أكثر من 60% منهم عن التصويت.
القوى المسلحة، التي خسرت ثلثي مقاعدها في البرلمان، والتي كانت ستخسرها جميعا لو كانت الحكومة قد نجحت في إقناع الناخبين بالتصويت، غاضبةٌ الآن لفقدانها صدارة المشهد، ومصممةٌ على البقاء مهما كان الثمن، فالمعركة بالنسبة لها معركة وجود. لذلك أقدمت على مهاجمة منزل رئيس الوزراء بطائرة مسيَّرة، إيرانية الصنع، بهدف إشاعة الإرهاب بين السياسيين جميعا، و(إقناعهم) بأنها لن تبقى صامتة إن لم تشترك في الحكومة المقبلة! الإيرانيون، كالعادة، مواقفهم مزدوجة، فمن ناحية يباركون نتائج الانتخابات، ومن ناحية أخرى يأمرون أتباعهم بالاحتجاج على النتائج، بشتى السبل، حتى وإن كانت بالمسيَّرات!
والغريب أن العبادي، الذي كان ينتقد القوى المسلحة ويتهمها بالفساد، قد انضم إليها، مع عمار الحكيم، في محاولة للحصول على موقع ما في الحكومة الجديدة. وأغرب تصريح حول هذا الموضوع هو ذاك الذي أدلى به رئيس الوزراء الأسبق، أياد علاوي، الذي لم تحصل جماعته على أي تمثيل في هذه الانتخابات، بأنه "يجب تعويض الخاسرين بمقاعد نيابية"!!!!
الشعب العراقي انتفض في تشرين عام 2019 على الفساد والفشل والتبعية والتدهور الأمني والاقتصادي في البلاد، وكان يطالب بتغيير جذري في المشهد السياسي. أي حكومة جديدة لا تعالج أسباب انتفاضة تشرين، ولا تلبي مطالب المنتفضين، سوف تفشل لأنها ستستفز الناس ضدها وتدفعهم للاحتجاج مرة أخرى، وبقوة أكبر هذه المرة. انتفاضة تشرين لم تتوقف، وإنما هي الآن ملتزِمة بهدنة مؤقتة مع الطبقة السياسية الحالية. لم يرهبْها القتل والخطف والبطش الذي مارسته حكومة عادل عبد المهدي، بل زادتها قوة وعزما وإصرارا على المضي في طريق ذات الشوكة.
الإتيان بالفاشلين مرة أخرى كي يديروا الدولة ليس صحيحا، فهؤلاء لا يستحقون فرصة كهذه، والبلد لا يتحمل مزيدا من الفشل والتردد والتجريب والتفريط بالسيادة. الحكومة المقبلة يجب أن تتشكل من شخصيات مشهود لها بالخبرة والنزاهة والإخلاص والولاء الوطني، وما أكثر هؤلاء في العراق، وفي الوقت نفسه يجب أن تصطف القوى السياسية المخلصة، التي تسعى بصدق لخدمة الشعب وإرساء دعائم الدولة المدنية، خلف هذه الحكومة كي تتمكن من أداء واجباتها والإيفاء بمطالب الشعب.