تنتهي قمة المناخ العالمية (كوب-26) التي استضافتها بريطانيا على مدى أسبوع في العاصمة الاسكوتلندية غلاسكو بتعهدات سخية، خاصة من الدول الغنية، تبشر بأن العالم ربما يتمكن من وقف ارتفاع درجة حرارة الأرض بخفض الانبعاثات بشكل كبير.
ورغم أنها تظل "مجرد تعهدات" دون أي قواعد إلزام خاصة للدول الصناعية الكبرى، إلا أنها أثارت تفاؤل الكثيرين من مناصري البيئة بقدرة البشرية على الحد من الاحتباس الحراري. إلا أن تحقيق الأهداف التي وضعها خبراء المناخ في الأمم المتحدة بضرورة تقليل معدلات الاحتباس الحراري، وجعل ارتفاع حرارة الأرض أقل من 1.5 درجة مئوية، ما زال محل شك من البعض.
يعود السبب إلى أن الصين مثلا، ومعها بعض الدول الصاعدة في العالم، ترى أن سقف ارتفاع درجة حرارة الأرض يتعين أن يكون عند 2 درجة مئوية وليس أقل من 1.5 درجة. لا يعني ذلك أن الصين وغيرها لا يدركون خطورة التغيرات المناخية، ولكنهم يتشككون في بعض الأهداف ويعتبرونها "سياسية". ويشبه ذلك تماما موقف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي علق مشاركة أميركا في اتفاقية المناخ لعام 2015 التي توصل إليها (كوب-21) في باريس. فالصين ترى أن تلك الأهداف إنما صيغت بطريقة تضر بآفاق تطورها الاقتصادي، خاصة في قطاعي الصناعة والتجارة، بالضبط كما اعتبر ترامب أن اتفاقية باريس استهدفت النيل من الميزات التنافسية للاقتصاد الأميركي.
تعهد الرئيس الأميركي جو بايدن، ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون مضيف القمة، بالكثير على طريق الحد من الانبعاثات وخفض الاحتباس الحراري. من مبادرة خفض انبعاثات غاز الميثان، الملوث للبيئة مثل ثاني أوكسيد الكربون، بنسبة 30 في المئة إلى وقف قطع أشجار الغابات حول العالم.
أما ما اعتبره البعض "مزايدة" كبيرة بالفعل فهو التعهد بوقف استخدام الفحم، باعتباره الملوث الأكبر لأن انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون من حرقه تتجاوز بمراحل الانبعاثات من النفط والغاز والوقود الحيوي. بالطبع، لا يعرف كيف يمكن أن يسهم بلد مثل استراليا في ذلك وهي أكبر دولة مصدرة للفحم في العالم، كما أن الصين من أكبر منتجي الفحم ومستخدميه في توليد الطاقة محطات تعمل به. حتى أوروبا، التي بدأت في إخراج محطات توليد الكهرباء العاملة بالفحم من الخدمة تدريجيا ضمن تعهدات مكافحة التغير المناخي اضطرت إلى إعادة تشغيل بعض تلك المحطات قبل أشهر حين عانت من مشكلة نقص إمدادات الكهرباء في شبكاتها وارتفاع أسعار الغاز الطبيعي العالمية.
حتى تعهدات وقف القضاء على الغابات الخضراء تبدو ليست فقط مزايدة، بل وعد فات أوانه. فأكبر مساحات الغابات في أميركا الجنوبية تم "تصحيرها" بالفعل، خاصة في البرازيل. والرئيس البرازيلي الذي لم يحضر قمة المناخ في غلاسكو ليس مقتنعا بموضوع التغير المناخي وخطورته، مثل الرئيس الأميركي السابق.
ربما لا يفيد هنا سوى مبادرة زيادة المساحات الخضراء التي تقودها الإمارات وأميركا وتم الاتفاق عليها في قمة المناخ. وسبقت القمة أيضا مبادرات تشجير، كالتي أعلنتها السعودية بزراعة نحو نصف مليار شجرة. فالمساحات الخضراء أكثر قدرة واستدامة على امتصاص الانبعاثات من الجو ربما أفضل من التكنولوجيا الحالية لاقتناص الكربون وتخزينه أو إعادة تدويره.
هناك مقولة شعبية قديمة في مصر مرتبطة باحتفال مولد أحد الأولياء الصالحين في قلب دلتا النيل: "ركب الخليفة وانفض المولد" – وتعني أن احتفالية الذكر والإنشاد انتهت ولا أثر كبير لها حتى موعد الاحتفال القادم. لكن نهاية قمة المناخ قد لا تكون هكذا تماما، رغم المزايدات وتشكك البعض في تعهداتها، التي تظل دون آليات إلزام للدول المتفقة عليها.
يعود سبب التفاؤل إلى مبادرة، ربما لم تلق التغطية الإعلامية المكثفة التي حظيت بها مبادرات أرقام خفض الكربون والميثان والفحم وهدر الغابات وغيرها. تلك التي أعلن عنها مبعوث الأمم المتحدة للمناخ مارك كارني عن تحالف مالي دولي يستثمر ما يصل إلى 100 تريليون دولار على مدى العقود الثلاثة القادمة في مشروعات خضراء ومبادرات الحد من تغير المناخ. ومارك كارني أصلا رجل مال واستثمارات أميركي، جاء به البريطانيون لفترة إلى منصب محافظ بنك إنجلترا (المركزي البريطاني). وجمع كارني تحالفا من صناديق استثمار وبنوك وشركات تأمين وغيرها تصل أصولهم إلى 130 تريليون دولار لهذا الغرض.
أتصور أن تلك هي النتيجة الأكثر أهمية لقمة المناخ في اسكوتلندا. فالقطاع المالي حين يركز على نهج لا تعنيه كثيرا مزايدات السياسة وخلافات المتنافسين من الدول الكبرى، بل هو قادر على الاستفادة منها وتحويلها إلى أرباح. لذا، سنرى أكثر ما سينتعش في السنوات القادة هو بورصات تداول كوبونات المناخ ونقاط الكربون بين الدول والقطاعات الصناعية والاقتصادية المختلفة. كذلك مشروعات التكنولوجيا الناشئة للحد من الانبعاثات وأيضا مشروعات الطاقة الخضراء والمستدامة. فمن أراد أن يكون له نصيب من مكاسب هذا النهج أن يتبع ما سيعمل عليه القطاع المالي العالمي في مجال المناخ.